´¯´°•.منتديات.•°´¯´°•. العراق.•°´¯´°•.
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

شرح تسع وتسعين حديثاً

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:26 pm

الحديث الأول
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها. فهجرته إلى ما هاجر إليه" متفق عليه.




الحديث الثاني
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه – وفي رواية: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا – فهو رد" متفق عليه.



هذان الحديثان العظيمان يدخل فيهما الدين كله، أصوله وفروعه، ظاهره وباطنه. فحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة، وحديث عائشة ميزان الأعمال الظاهرة.
ففيهما الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول اللذان هما شرط لكل قول وعمل، ظاهر وباطن. فمن أخلص أعماله لله متبعاً في ذلك رسول الله فهذا الذي عمله مقبول. ومن فقد الأمرين أو أحدهما فعمله مردود، داخل في قول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} والجامع للوصفين داخل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
أما النية: فهي القصد للعمل تقرباً إلى الله، وطلباً لمرضاته وثوابه. فيدخل في هذا: نية العمل، ونية المعمول له.
أما نية العمل: فلا تصح الطهارة بأنواعها، ولا الصلاة والزكاة والصوم والحج وجميع العبادات إلا بقصدها ونيتها، فينوي تلك العبادة المعينة. وإذا كانت العبادة تحتوي على أجناس وأنواع، كالصلاة، منها الفرض، والنفل المعين، والنفل المطلق. فالمطلق منه يكفي فيه أن ينوي الصلاة. وأما المعين من فرض أو نفل معين – كوتر أو راتبة – فلا بد مع نية الصلاة أن ينوي ذلك المعين. وهكذا بقية العبادات.
ولا بد أيضاً أن يميز العادة عن العبادة. فمثلاً الاغتسال يقع نظافة أو تبرداً، ويقع عن الحدث الأكبر، وعن غسل الميت، وللجمعة ونحوها، فلا بد أن ينوي فيه رفع الحدث أو ذلك الغسل المستحب. وكذلك يخرج الإنسان الدراهم مثلاً للزكاة، أو للكفارة، أو للنذر، أو للصدقة المستحبة، أو هدية. فالعبرة في ذلك كله على النية.
ومن هذا: حيل المعاملات إذا عامل معاملة ظاهرها وصورتها الصحة، ولكنه يقصد بها التوسل إلى معاملة ربوية، أو يقصد بها إسقاط واجب، أو توسلاً إلى محرم. فإن العبرة بنيته وقصدهن لا بظاهر لفظه؛ فإنما الأعمال بالنيات. وذلك بأن يضم إلى أحد المعوضين ما ليس بمقصود، أو يضم إلى العقد عقداً غير مقصود. قاله شيخ الإسلام.
وكذلك شرط الله في الرجعة وفي الوصية: أن لا يقصد العبد فيهما المضارة.
ويدخل في ذلك جميع الوسائل التي يتوسل بها إلى مقاصدها؛ فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، صالحة أو فاسدة. والله يعلم المصلح من المفسد.
وأما نية المعمول له: فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبد وما يذر، وفي كل ما يقول ويفعل. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .
وذلك أن على العبد أن ينوي نية كلية شاملة لأموره كلها، مقصوداً بها وجه الله، والتقرب إليه، وطلب ثوابه، واحتساب أجره، والخوف من عقابه. ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله، وجميع أحواله، حريصاً فيه على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده: من الرياء والسمعة، وقصد المحمدة عند الخلق، ورجاء تعظيمهم، بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله العبد قصده، وغاية مراده، بل يكون القصد الأصيل منه: وجه الله، وطلب ثوابه من غير التفات للخلق، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم. فإن حصل شيء نم ذلك من دون قصد من العبد لم يضره شيئاً، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن.
فقوله : "إنما الأعمال بالنيات" أي: إنها لا تحصل ولا تكون إلا بالنية، وأن مدارها على النية. ثم قال: "وإنما لكل امرئ ما نوى" أي: إنها تكون بحسب نية العبد صحتها أو فسادها، كمالها أو نقصانها، فمن نوى فعل الخير وقصد به المقاصد العليا – وهي ما يقرب إلى الله – فله من الثواب والجزاء الجزاء الكامل الأوفى. ومن نقصت نيته وقصده نقص ثوابه. ومن توجهت نيته إلى غير هذا المقصد الجليل فاته الخير، وحصل على ما نوى من المقاصد الدنيئة الناقصة. ولهذا ضرب النبي مثالاً ليقاس عليه جميع الأمور، فقال: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" أي: حصل له ما نوى، ووقع أجره على الله "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" خص فيه المرأة التي يتزوجها بعد ما عم جميع الأمور الدنيوية لبيان أن جميع ذلك غايات دنيئة، ومقاصد غير نافعة، وكذلك حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، أو حمية، أو ليُرَى مقامه في صف القتال "أيُّ ذلك في سبيل الله؟" فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقال تعالى في اختلاف النفقة بحسب النيات {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} وقال: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} وهكذا جميع الأعمال . .
والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص، حتى إن صاحب النية الصادقة – وخصوصاً إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل – يلتحق صاحبها بالعامل. قال تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}
وفي الصحيح مرفوعاً "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"، "إن بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلى كانوا معكم – أي: في نياتهم وقلوبهم وثوابهم – حبسهم العذر" وإذا هم العبد بالخير ثم لم يقدر له العمل كتبت هِمَّته ونيته له حسنة كاملة. والإحسان إلى الخلق بالمال والقول والفعل خير وأجر وثواب عند الله. ولكنه يعظم ثوابه بالنية. قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} أي: فإنه خير، ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فرتب الأجر العظيم على فعل ذلك ابتغاء مرضاته. وفي البخاري مرفوعاً "من أخذ أموال الناس يريد أداءَها أدَّاها الله عنه. ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" فانظر كيف جعل النية الصالحة سبباً قوياً للرزق وأداء الله عنه، وجعل النية السيئة سبباً للتلف والإتلاف.
وكذلك تجري النية في المباحات والأمور الدنيوية. فإن من قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله وقيامه بالواجبات والمستحبات، واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ونومه وراحاته ومكاسبه: انقلبت عاداته عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أموراً لا يحتسبها ولا تخطر له على بال. ومن فاتته هذه النية الصالحة لجهله أو تهاونه فلا يلومن إلا نفسه. وفي الصحيح عنه أنه قال "إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه، حتى ما تجعله في فيّ امرأتِك".
فعلم بهذا: أن هذا الحديث جامع لأمور الخير كلها. فحقيق بالمؤمن الذي يريد نجاة نفسه ونفعها أن يفهم معنى هذا الحديث، وأن يكون العمل به نصيب عينيه في جميع أحواله وأوقاته.


وأما حديث عائشة: فإن قوله : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد – أو من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فيدل بالمنطوق وبالمفهوم.
أما منطوقه: فإنه يدل على أن كل بدعة أحدثت في الدين ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، سواء كانت من البدع القولية الكلامية، كالتجهم والرفض والاعتزال وغيرها، أو نم البدع العملية كالتعبد لله بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله. فإن ذلك كله مردود على أصحابه. وأهله مذمومون بحسب بدعهم وبُعدها عن الدين. فمن أخبر بغير ما أخبر الله به ورسوله، أو تعبد بشيء لم يأذن لم يأذن الله به ورسوله ولم يشرعه: فهو مبتدع. ومن حرَّم المباحات، أو تعبد بغير الشرعيات: فهو مبتدع.
وأما مفهوم هذا الحديث: فإن من عمل عملاً، عليه أمر الله ورسوله – وهو التعبد لله بالعقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة: من واجب ومستحب: فعمله مقبول، وسعيه مشكور.
ويستدل بهذا الحديث على أن كل عبادة فعلت على وجه منهي عنه فإنها فاسدة؛ لأنه ليس عليها أمر الشارع، وأن النهي يقتضي الفساد. وكل معاملة نهى الشارع عنها فإنها لاغية لا يعتد بها.







الحديث الثالث
عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم"
رواه مسلم.



كرر النبي  هذه الكلمة اهتماماً للمقام، وإرشاداً للأمة أن يعلموا حق العلم أن الدين كله – ظاهره وباطنه – منحصر في النصيحة. وهي القيام التام بهذه الحقوق الخمسة.
فالنصيحة لله: الاعتراف بوحدانية الله. وتفرده بصفات الكمال على وجه لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً، والإنابة إليه كل وقت بالعبودية، والطلب رغبة ورهبة مع التوبة والاستغفار الدائم؛ لأن العبد لا بد له من التقصير من شيء نم واجبات الله، أو التجرؤ على بعض المحرمات. وبالتوبة الملازمة والاستغفار الدائم ينجبر نقصه، ويتم عمله وقوله.
وأما النصيحة لكتاب الله: فبحفظه وتدبره، وتعلم ألفاظه ومعانيه والاجتهاد في العمل به في نفسه وفي غيره.
وأما النصيحة للرسول: فهي الإيمان به ومحبته، وتقديمه فيها على النفس والمال والولد، واتباعه في أصول الدين وفروعه، وتقديم قوله على قول كل أحد، والاجتهاد في الاهتداء بهديه، والنصر لدينه.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين – وهم ولاتها، من الإمام الأعظم إلى الأمراء والقضاة إلى جميع من لهم ولاية عامة أو خاصة -: فباعتقاد ولايتهم، والسمع والطاعة لهم، وحث الناس على ذلك، وبذل ما يستطيعه من إرشادهم، وتنبيههم إلى كل ما ينفعهم وينفع الناس، وإلى القيام بواجبهم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين: فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله.
فالنبي  فسر النصيحة بهذه الأمور الخمسة التي تشمل القيام بحقوق الله، وحقوق كتابه، وحقوق رسوله، وحقوق جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم وطبقاتهم. فشمل ذلك الدين كله، ولم يبق منه شيء إلا دخل في هذا الكلام الجامع المحيط. والله أعلم.









الحديث الرابع
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "أتى أعرابي النبي ، فقال: دُلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتُؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنْقُصُ منه. فلما وَلَّى، قال النبي : مَنْ سَرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"
متفق عليه.



قد وردت أحاديث كثيرة في هذا الأصل الكبير الذي دلّالحديث الرابع
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "أتى أعرابي النبي ، فقال: دُلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتُؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنْقُصُ منه. فلما وَلَّى، قال النبي : مَنْ سَرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"
متفق عليه.



قد وردت أحاديث كثيرة في هذا الأصل الكبير الذي دلّ عليه الحديث. ومدلولها كلها متفق أو متقارب على أن من أدى ما فرض الله عليه بحسب الفروض المشتركة والفروض المختصة بالأسباب التي من وجدت فيه وجبت عليه. فمن أدى الفرائض واجتنب المحرمات استحق دخول الجنة، والنجاة من النار. ومن اتصف بهذا الوصف فقد استحق اسم الإسلام والإيمان، وصار من المتقين المفلحين، وممن سلك الصراط المستقيم. عليه الحديث. ومدلولها كلها متفق أو متقارب على أن من أدى ما فرض الله عليه بحسب الفروض المشتركة والفروض المختصة بالأسباب التي من وجدت فيه وجبت عليه. فمن أدى الفرائض واجتنب المحرمات استحق دخول الجنة، والنجاة من النار. ومن اتصف بهذا الوصف فقد استحق اسم الإسلام والإيمان، وصار من المتقين المفلحين، وممن سلك الصراط المستقيم.








الحديث الخامس
عن سفيان بن عبد الله الثَّقفي قال: قلت "يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم"
رواه مسلم.



فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جاعاً للخير نافعاً، موصلاً صاحبه إلى الفلاح. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله الذي يشمل ما يجب اعتقادُه: من عقائد الإيمان، وأصوله، وما يتبع ذلك: من أعمال القلوب، والانقياد والاستسلام لله،باطناً وظاهراً، ثم الدوام على ذلك، والاستقامة عليه إلى الممات. وهو نظير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} . فرتب على الإيمان والاستقامة: السلامة من جميع الشرور، وحصول الجنة وجميع المحاب.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة على أن الإيمان يشمل ما في القلوب من العقائد الصحيحة، وأعمال القلوب: من الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، وإرادة الخير، وكراهة الشر. ومن أعمال الجوارح . ولا يتم ذلك إلا بالثبات عليه
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:30 pm

الحديث السادس
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"
متفق عليه.
وزاد الترمذي والنسائي: "والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم"
وزاد البيهقي: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله".



ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة، التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة. وهي الإسلام والإيمان، والهجرة والجهاد. وذكر حدودها بكلام جامع شامل، وأن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
وذلك أن الإسلام الحقيقي: هو الاستلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه، وحقوق المسلمين. ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه. ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده. فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين. فمن لم يسلم المسلمون من لسانه أو يده كيف يكون قائماً بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟ فسلامتهم من شره القولي والفعلي عنوان على كمال إسلامه.
وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به، أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم. ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وأمنوه على دمائهم وأموالهم. ووثقوا به، لما يعلمون منه من مراعاة الأمانات، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له".
وفسر الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي. وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله؛ فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات، والإقدام على المعاصي. والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام، والسنة جزء من هذه الهجرة، وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة.
وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله؛ فإن النفس مَيَّالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله، وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب. وهذه هي الطاعات: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور.
فالمجاهد حقيقة: من جاهدها على هذه الأمور؛ لتقوم بواجبها ووظيفتها.
ومن أشرف هذا النوع وأجلِّه: مجاهدتُها على قتلا الأعداء، ومجاهدتهم بالقول والفعل؛ فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين.
فهذا الحديث من قام بما دلّ عليه فقد قام بالدين كله: "من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وهجر ما نهى الله عنه، وجاهد نفسه على طاعة الله"، فإنه لم يبق من الخير الديني والدنيوي الظاهري والباطني شيئاً إلا فعله، ولا من الشر شيئاً إلا فعله، ولا من الشر شيئاً إلا تركه. والله الموفق وحده.








الحديث السابع
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله  : "أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً. ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدَر، وإذا خاصم فجر"
متفق عليه.



النفاق أساس الشر. وهو أن يظهر الخير، ويبطن الشر. هذا الحدُّ يدخل فيه النفاق الأكبر الاعتقادي، الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر. وهذا النوع مُخرج من الدين بالكلية، وصاحبه في الدَّرْك الأسفل من النار. وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها: من الكفر، وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدين وأهله، والسخرية منهم، والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عداوة دين الإسلام. وهم موجودون في كل زمان، ولا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه المادية والإلحاد والإباحية.
والمقصود هنا: القسم الثاني من النفاق الذي ذكر في هذا الحديث فهذا النفاق العملي – وإن كان لا يخرج من الدين بالكلية – فإن دهليز الكفر، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع فقد اجتمع فيه الشر، وخلصت فيه نعوت المنافقين، فإن الصدق، والقيام بالأمانات، والوفاء بالعهود، والورع عن حقوق الخلق هي جماع الخير، ومن أخص أوصاف المؤمنين. فمن فقد واحدة منها فقد هدم فرضاً من فروض الإسلام والإيمان، فكيف بجميعها؟.
فالكذب في الحديث يشمل الحديث عن الله والحديث عن رسول الله  الذي من كذب عليه معتمداً فليتبوأ مقعده من النار {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} يشمل الحديث عما يخبر به من الوقائع الكلية والجزئية. فمن كان هذا شأنه فقد شارك المنافقين في أخص صفاتهم، وهي الكذب الذي قال فيه النبي  : "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" ومن كان إذا ائتمن على الأموال والحقوق والأسرار خانها، ولم يقم بأمانته، فأين إيمانه؟ وأين حقيقة إسلامه؟ وكذلك من ينكث العهود التي بينه وبين الله، والعهود التي بينه وبين الخلق متصف بصفة خبيثة من صفات المنافقين. وكذلك من لا يتورع عن أموال الخلق وحقوقهم، ويغتنم فرصها، ويخاصم فيها بالباطل ليثبت باطلاً، أو يدفع حقاً. فهذه الصفات لا تكاد تجتمع في شخص ومعه من الإيمان ما يجزي أو يكفي، فإنها تنافي الإيمان أشد المنافاة.
واعلم أن من أصول أهل السنة والجماعة: أنه قد يجتمع في العبد خصال خير وخصال شر، وخصال إيمان وخصال كفر أو نفاق. ويستحق من الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك وقد دلّ على هذا الأصل نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. فيجب العمل بكل النصوص، وتصديقها كلها. وعلينا أن نتبرأ من مذهب الخوارج الذين يدفعون ما جاءت به النصوص: من بقاء الإيمان وبقاء الدين، ولو فعل الإنسان من المعاصي ما فعل، إذا لم يفعل شيئاً من المنكرات التي تخرج صاحبها من الإيمان. فالخوارج يدفعون ذلك كله، ويرون من فعل شيئاً من الكبائر ومن خصال الكفر أو خصال النفاق خارجاً من الدين، مخلداً في النار. وهذا مذهب باطل بالكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.





الحديث الثامن
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  : "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، وَلْيَنْتَهِ". وفي لفظ "فليقل: آمنت بالله ورسله"
متفق عليه.
وفي لفظ "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولون: من خلق الله؟".




احتوى هذا الحديث على أنه لا بد أن يلقي الشيطان هذا الإيراد الباطل: إما وسوسة محضة، أو على لسان شياطين الإنس وملاحدتهم. وقد وقع كما أخبر، فإن الأمرين وقعا، لا يزال الشيطان يدفع إلى قلوب من ليست لهم بصيرة هذا السؤال الباطل، ولا يزال أهل الإلحاد يلقون هذه الشبهة التي هي أبطل الشبه، ويتكلمون عن العلل وعن مواد العلم بكلام سخيف معروف.
وقد أرشد النبي  في هذا الحديث العظيم إلى دفع هذا السؤال بأمور ثلاثة: بالانتهاء، والتعوذ من الشيطان، وبالإيمان.
أما الانتهاء – وهو الأمر الأول -: فإن الله تعالى جعل للأفكار والعقول حداً تنتهي إليه، ولا تتجاوزه. ويستحيل لو حاولت مجاوزته أن تستطيع، لأنه محال، ومحاولة المحال من الباطل والسفه، ومن أمحل المحال التسلسل في المؤثرين والفاعلين. فإن المخلوقات لها ابتداء، ولها انتهاء. وقد تتسلسل في كثير من أمورها حتى تنتهي إلى الله الذي أوجدها وأوجد ما فيها من الصفات والمواد والعناصر {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهَى} فإذا وصلت العقول إلى الله تعالى وقفت وانتهت، فإنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء. فأوّليته تعالى لا مبتدأ لها مهما فرضت الأزمان والأحوال. وهو الذي أوجد الأزمان والأحوال والعقول التي هي بعض قوى الإنسان. فكيف يحاول العقل أن يتشبث في إيراد هذا السؤال الباطل. فالفرض عليه المحتم في هذه الحال: الوقوف، والانتهاء.
الأمر الثاني: التعوذ بالله من الشيطان. فإن هذا من وساوسه وإلقائه في القلوب؛ ليشكك الناس في الإيمان بربهم. فعلى العبد إذا وجد ذلك: أن يستعيذ بالله منه، فمن تعوذ بالله بصدق وقوة أعاذه الله وطرد عنه الشيطان، واضمحلت وساوسه الباطلة.
الأمر الثالث: أن يدفعه بما يضاده من الإيمان بالله ورسله، فإن الله ورسله أخبروا بأنه تعالى الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه تعالى المتفرد بالوحدانية، وبالخلق والإيجاد للموجودات السابقة واللاحقة.
فهذا الإيمان الصحيح الصادق اليقيني يدفع جميع ما يضاده من الشبه المنافية له، فإن الحق يدفع الباطل. والشكوك لا تعارض اليقين.
فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي  تبطل هذه الشبه التي لا تزال على ألسنة الملاحدة، يلقونها بعبارات متنوعة. فأمر بالانتهاء الذي يبطل التسلسل الباطل، وبالتعوذ من الشيطان الذي هو الملقي لهذه الشبهة، وبالإيمان الصحيح الذي يدفع كل ما يضاده من الباطل. والحمد لله فبالانتهاء: قطع الشر مباشرة. وبالاستعاذة: قطع السبب الداعي إلى الشر. وبالإيمان اللجأ والاعتصام بالاعتقاد الصحيح اليقيني الذي يدفع كل معارض.
وهذه الأمور الثلاثة هي جماع الأسباب الدافعة لكل شبهة تعارض الإيمان. فينبغي العناية بها في كل ما عرض للإيمان من شبهة واشتباه يدفعه العبد مباشرة بالبراهين الدالة على إبطاله، وبإثبات ضده وهو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، وبالتعوذ بالله من الشيطان الذي يدفع إلى القلوب فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ليزلزل إيمانهم، ويوقعهم بأنواع المعاصي. فبالصبر واليقين: ينال العبد السلامة من فتن الشهوات، ومن فتن الشبهات. والله هو الموفق الحافظ.






لحديث التاسع
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله  "كل شيء بقدّر حتى العَجْز والكَيْس"
رواه مسلم.



هذا الحديث متضمن لأصل عظيم من أصول الإيمان الستة. وهو الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، عامه وخاصه، سابقه ولاحقه، بأن يعترف العبد أن علم الله محيط بكل شيء، وأنه علم أعمال العباد خيرها وشرها، وعلم جميع أمورهم وأحوالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. كما قال تعالى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ثم إن الله ينفذ هذه الأقدار في أوقاتها بحسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته، الشاملتان لكل ما كان وما يكون، الشاملتان للخلق والأمر، وأنه مع ذلك، ومع خلقه للعباد وأفعالهم وصفاتهم، فقد أعطاهم قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم بحسب اختيارهم، لم يجبرهم عليها. وهو الذي خلق قدرتهم ومشيئتهم. وخالق السبب التام خالق للمسبب. فأفعالهم وأقوالهم تقع بقدرتهم ومشيئتهم اللتين خلقهما الله فيهم، كما خلق بقية قواهم الظاهرة والباطنة. ولكنه تعالى يَسَّرَ كلاً لما خلق له.
فمن وَجَّه وجهه وقصده لربه: حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين، فتمت عليه نعم الله من كل وجه.
ومن وجّه وجهه لغير الله، بل تولى عدوه الشيطان: لم ييسره لهذه الأمور، بل وَلاَّه الله ما تولى، وخذله، ووكله إلى نفسه، فضَلَّ وغوى وليس له على ربه حجة، فإن الله أعطاه جميع الأسباب التي يقدر بها على الهداية، ولكنه اختار الضلالة على الهدى، فلا يلومن إلا نفسه. قال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ} وقال: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهذا القدر يأتي على جميع أحوال العبد وأفعاله وصفاته، حتى العجز والكيس. وهما الوصفان المتضادان الذي ينال بالأول منهما – وهو العجز -: الخيبة والخسران، وبالثاني – وهو الكيس -: الجد في طاعة الرحمن. والمراد هنا: العجز الذي يلام عليه العبد، وهو عدم الإرادة، وهو الكسل، لا العجز الذي هو عدم القدرة. وهذا هو معنى الحديث الآخر "اعلموا؛ فكل مُيَسَّرٌ لما خُلِق له".
أما أهل السعادة: فييسرون لعلم السعادة، وذلك بكيسهم وتوفيقهم ولطف الله بهم. والكيس والعاجز هما المذكوران في قوله  : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني".








الحديث العاشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  : "من دعاء إلى هُدَى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"
رواه مسلم.



هذا الحديث – وما أشبهه من الأحاديث – فيه: الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغيّ، وعظم جرم الداعي وعقوبته.
والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح.
فكل من علم علماً لو وَجَّه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم: فهو داع إلى الهدى.
وكل من دعاء إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة: فهو داع إلى الهدى.
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين: فهو داع إلى الهدى.
وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره: فهو داع إلى الهدى.
وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع: فهو داخل في هذا النص.
وعكس ذلك كله: الداعي إلى الضلالة.
فالداعون إلى الهدى: هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين.
والداعون إلى الضلالة: هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
وكل من عاون غيره على البر والتقوى: فهو من الداعين إلى الهدى.
وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان: فهو من الداعين إلى الضلالة
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:36 pm

الحديث الحادي عشر
عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله  : "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"
متفق عليه.



هذا الحديث من أعظم فضائل العلم، وفيه: أن العلم النافع علامة على سعادة العبد، وأن الله أراد به خيراً.
والفقه في الدين يشمل الفقه في أصول الإيمان، وشرائع الإسلام والأحكام، وحقائق الإحسان. فإن الدين يشمل الثلاثة كلها، كما في حديث جبريل لما سأل النبي  عن الإيمان والإسلام والإحسان، وأجابه  بحدودها. ففسر الإيمان بأصوله الستة. وفسر الإسلام بقواعده الخمس. وفسر الإحسان بـ "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فيدخل في ذلك التفقه في العقائد، ومعرفة مذهب السلف فيها، والتحقق به ظاهراً وباطناً، ومعرفة مذاهب المخالفين، وبيان مخالفتها للكتاب والسنة.
ودخل في ذلك: علم الفقه، أصوله وفروعه، أحكام العبادات والمعاملات، والجنايات وغيرها.
ودخل في ذلك: التفقه بحقائق الإيمان، ومعرفة السير والسلوك إلى الله، الموافقة لما دل عليه الكتاب والسنة.
وكذلك يدخل في هذا: تعلُّم جميع الوسائل المعينة على الفقه في الدين كعلوم العربية بأنواعها.
فمن أراد الله به خيراً فقهه في هذه الأمور، ووفقه لها.
ودلّ مفهوم الحديث على أن من أعرض عن هذه العلوم بالكلية فإن الله لم يرد به خيراً، لحرمانه الأسباب التي تنال بها الخيرات، وتكتسب بها السعادة









الحديث الثاني عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجَز .. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل، فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان"
رواه مسلم.



هذا الحديث اشتمل على أصول عظيمة كلمات جامعة.
فمنها: إثبات المحبة صفة لله، وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها ودلّ على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وأيضاً تتفاضل. فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف.
ودلّ الحديث على أن الإيمان يشمل العقائد القلبية والأقوال والأفعال، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول: "لا إله إلا الله" وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة منه. وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. فمن قام بها حق القيام، وكَمَّل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمَّل غيره بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان. ومن لم يصل إلى هذه المرتبة: فهو المؤمن الضعيف.
وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص. وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه، وبحسب أعماله.
وهذا الأصل قد دلّ عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة:
ولما فاضل النبي  بين المؤمنين قويهم وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول، فقال: "وفي كل خير" وفي هذا الاحتراز فائدة نفيسة، وهي أن على من فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكر وجه التفضيل ، وجهة التفضيل. ويحترز بذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول، لئلا يتطرق القدح إلى المفضول وكذلك في الجانب الآخر إذا ذكرت مراتب الشر والأشرار، وذكر التفاوت بينهما. فينبغي بعد ذلك أن يذكر القدر المشترك بينهما من أسباب الخير أو الشر. وهذا كثير في الكتاب والسنة.
وفي هذا الحديث: أن المؤمنين يتفاوتون في الخيرية، ومحبة الله والقيام بدينه، وأنهم في ذلك درجات {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} ويجمعهم ثلاثة أقسام: السابقون إلى الخيرات، وهم الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات وكملوا ما باشروه من الأعمال، واتصفوا بجميع صفات الكمال. ثم المقتصدون الذين اقتصروا على القيام بالواجبات وترك المحظورات. ثم الظالمون لأنفسهم، الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً.
وقوله  : "احرص على ما ينفعك واستعن بالله" كلام جامع نافع، مُحِتوٍ على سعادة الدنيا والآخرة.
والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية. والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما، مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه. ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها، فمن لم يكن حريصاً على الأمور النافعة، بل كان كسلاناً لم يدرك شيئاً. فالكسل هو أصل الخيبة والفشل. فالكسلان لا يدرك خيراً، ولا ينال مكرمة، ولا يحظى بدين ولا دنيا، ومتى كان حريصاً، ولكن على غير الأمور النافعة: إما على أمور ضارة، أو مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه الخيبة، وفوات الخير، وحصول الشر والضرر، فكم من حريص على سلوك طرق وأحوال غير نافعة لم يستفد من حرصه إلا التعب والعناء والشقاء.
ثم إذا سلك العبد الطرق النافعة، وحرص عليها، واجتهد فيها: لم تتم له إلا بصدق اللجأ إلى الله، والاستعانة به على إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحَوْله وقوته، بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه. فبذلك تهون عليه المصاعب، وتتيسر له الأحوال محتاج – بل مضطر غاية الاضطرار – إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها.
فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين: علم نافع، وعمل صالح.
أما العلم النافع: فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين. وهو ما جاء به الرسول  من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف باختلاف الأحوال. والحالة التقريبية: أن يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه. فإن تعذر أو تعسر عليه حفظه لفظاً، فليكرره كثيراً، متدبراً لمعانيه، حتى ترسخ معانيه في قلبه. ثم تكون باقي كتب هذا الفن كالتفسير والتوضيح والتفريع لذلك الأصل الذي عرفه وأدركه، فإن الإنسان إذا حفظ الأصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها: صغارها وكبارها. ومن ضيع الأصول حرم الوصول.
فمن حرص على هذا الذي ذكرناه، واستعان بالله: أعانه الله، وبارك في علمه، وطريقه الذي سلكه.
ومن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة: فاتت عليه الأوقات، ولم يدرك إلا العناء، كما هو معروف بالتجربة. والواقع يشهد به، فإن يسر الله له معلماً يحسن طريقة التعليم، ومسالك التفهيم: تم له السبب الموصل إلى العلم.
وأما الأمر الثاني – وهو العمل الصالح -: فهو الذي جمع الإخلاص لله، والمتابعة للرسول ، وهو التقرب إلى الله: باعتقاد ما يجب لله من صفات الكمال، وما يستحقه على عباده من العبودية، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وتصديقه وتصديق رسوله في كل خبر أخبرا به عما مضى، وعما يستقبل عن الرسل، والكتب والملائكة، وأحول الآخرة، والجنة والنار، والثواب والعقاب وغير ذلك ثم يسعى في أداء ما فرضه الله على عباده: من حقوق الله، وحقوق خلقه ويكمل ذلك بالنوافل والتطوعات، خصوصاً المؤكدة في أوقاتها، مستعيناً بالله على فعلها، وعلى تحقيقها وتكميلها، وفعلها على وجه الإخلاص الذي لا يشوبه غرض من الأغراض النفسية. وكذلك يتقرب إلى الله بترك المحرمات، وخصوصاً التي تدعو إليها النفوس، وتميل إليها. فيتقرب إلى ربه بتركها لله، كما يتقرب إليه بفعل المأمورات، فمتى وفّق العبد بسلوك هذا الطريق في العمل، واستعان الله على ذلك أفلح ونجح. وكان كماله بحسب ما قام به من هذه الأمور، ونقصه بحسب ما فاته منها.
وأما الأمور النافعة في الدنيا: فالعبد لا بد له من طلب الرزق. فينبغي أن يسلك أنفع الأسباب الدنيوية اللائقة بحاله. وذلك يختلف باختلاف الناس، ويقصد بكسبه وسعيه القيام بواجب نفسه، وواجب من يعوله ومن يقوم بمؤنته، وينوي الكفاف والاستغناء بطلبه عن الخلق. وكذلك ينوي بسعيه وكسبه تحصيل ما تقوم به العبوديات المالية: من الزكاة والصدقة، والنفقات الخيرية الخاصة والعامة مما يتوقف على المال، ويقصد المكاسب الطيبة، متجنباً للمكاسب الخبيثة المحرمة. فمتى كان طلب العبد وسعيه في الدنيا لهذه المقاصد الجليلة، وسلك أنفع طريق يراه مناسباً لحاله كانت حركاته وسعيه قربة يتقرب إلى الله بها. ومن تمام ذلك: أن لا يتكل العبد على حوله وقوته وذكائه ومعرفته، وحذقه بمعرفة الأسباب وإدارتها، بل يستعين بربه متوكلاً عليه، راجياً منه أن ييسره لأيسر الأمور وأنجحها، وأقربها تحصيلاً لمراده. ويسأل ربه أن يبارك له في رزقه، فأول بركة الرزق: أن يكون مؤسساً على التقوى والنية الصالحة. ومن بركة الرزق: أن يوفق العبد لوضعه في مواضعه الواجبة والمستحبة، ومن بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} بالتيسير على الموسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير. فبذلك ينال العبد خيراً كثيراً.
فإن قيل: أي المكاسب أولى وأفضل؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. فمنهم من فضل الزراعة والحراثة. ومنهم من فضل البيع والشراء. ومنهم من فضل القيام بالصناعات والحرف ونحوها. وكل منهم أدلى بحجته. ولكن هذا الحديث هو الفاصل للنزاع، وهو أنه  قال : "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله" والنافع من ذلك معلوم أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. فمنهم من تكون الحراثة والزراعة أفضل في حقه، ومنهم من يكون البيع والشراء والقيام بالصناعة التي يحسنها أفضل في حقه. فالأفضل من ذلك وغيره الأنفع.
فصلوات الله وسلامه على من أعطي جوامع الكلم ونوافعها.
ثم إنه  حضّ على الرضا بقضاء الله وقدره، بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في الحرص على النافع. فإذا أصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه وتستريح نفسه؛ فإن " لو " في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن والمضعف للقلب. وهذه الحال التي أرشد إليها النبي  هي أعظم الطرق لراحة القلب، وأدعى لحصول القناعة والحياة الطيبة، وهو الحرص على الأمور النافعة، والاجتهاد في تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره منها، والرضى عنه بما فات، ولم يحصل منها.
واعلم أن استعمال " لو " يختلف باختلاف ما قصد بها. فإن استعملت في هذه الحال التي لا يمكن استدراك الفائت فيها فإنها تفتح على العبد عمل الشيطان، كما تقدم. وكذلك لو استعملت في تمني الشر والمعاصي فإنها مذمومة، وصاحبها آثم، ولو لم يباشر المعصية. فإنه تمنى حصولها.
وهذا الأصل الذي ذكره النبي  - وهو الأمر بالحرص على الأمور النافعة، ومن لازمه اجتناب الأمور الضارة مع الاستعانة بالله – يشمل استعماله والأمر به في الأمور الجزئية المختصة بالعبد ومتعلقاته، ويشمل الأمور الكلية المتعلقة بعموم الأمة. فعليهم جميعاً أن يحرصوا على الأمور النافعة. وهي المصالح الكلية والاستعداد لأعدائهم بكل مستطاع مما يناسب الوقت، من القوة المعنوية والمادية، ويبذلوا غاية مقدورهم في ذلك، مستعينين بالله على تحقيقه وتكميله، ودفع جميع ما يضاد ذلك. وشرح هذه الجملة يطول وتفاصيلها معروفة.
وقد جميع النبي  في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دلّ عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة. ولا يتم الدين إلا بهما. بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن قوله "احرص على ما ينفعك" أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص لعيه، نية وهمة، فعلاً وتدبيراً.
وقوله: "واستعن بالله" إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك. فالمتبع للرسول  يتعين عليه أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه، وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته والله المستعان.











الحديث الثالث عشر
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً – وشبك بين أصابعه"
متفق عليه.



هذا حديث عظيم، فيه الخبر من النبي  عن المؤمنين أنهم على هذا الوصف. ويتضمن الحثّ منه على مراعاة هذا الأصل. وأن يكونوا إخواناً متراحمين متحابين متعاطفين، يحب كل منهم للآخر ما يحب لنفسه، ويسعى في ذلك، وأن عليهم مراعاة المصالح الكلية الجامعة لمصالحهم كلهم، وأن يكونوا على هذا الوصف فإن البنيان المجموع من أساسات وحيطان محيطة كلية وحيطان تحيط بالمنازل المختصة، وما تتضمنه من سقوف وأبواب ومصالح ومنافع. كل نوع من ذلك لا يقوم بمفرده حتى ينضم بعضها إلى بعض. كذلك المسلمون يجب أن يكونوا كذلك. فيراعوا قيام دينهم وشرائعه وما يقوِّم ذلك ويقويه، ويزيل موانعه وعوارضه.
فالفروض العينية: يقوم بها كل مكلف، لا يسع مكلفاً قادراً تركها أو الإخلال بها. وفروض الكفايات: يجعل في كل فرض منها من يقوم به من المسلمين، بحيث تحصل بهم الكفاية، ويتم بهم المقصود المطلوب. قال تعالى في الجهاد: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} ، وقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وأمر تعالى بالتعاون على البر والتقوى فالمسلمون قصدهم ومطلوبهم واحد، وهو قيام مصالح دينهم ودنياهم التي لا يتم الدين إلا بها. وكل طائفة تسعى في تحقيق مهمتها بحسب ما يناسبها ويناسب الوقت والحال. ولا يتم لهم ذلك إلا بعقد المشاورات والبحث عن المصالح الكلية. وبأي وسيلة تدرك، وكيفية الطرق إلى سلوكها، وإعانة كل طائفة للأخرى في رأيها وقولها وفعلها وفي دفع المعارضات والمعوقات عنها، فمنهم طائفة تتعلم. وطائفة تعلم، ومنهم طائفة تخرج إلى الجهاد بعد تعلمها لفنون الحرب. ومنهم طائفة ترابط، وتحافظ على الثغور ، ومسالك الأعداء. ومنهم طائفة تشتغل بالصناعات المخرجة للأسلحة المناسبة لكل زمان بحسبه. ومنهم طائفة تشتغل بالحراثة والزراعة والتجارة والمكاسب المتنوعة، والسعي في الأسباب الاقتصادية، ومنهم طائفة تشتغل بدرس السياسة وأمور الحرب والسلم، وما ينبغي عمله مع الأعداء مما يعود إلى مصلحة الإسلام والمسلمين، وترجيح أعلى المصالح على أدناها، ودفع أعلى المضار بالنزول إلى أدناها، والموازنة بين الأمور، معرفة حقيقة المصالح والمضار ومراتبها.
وبالجملة، يسعون كلهم لتحقيق مصالح دينهم ودنياهم، متساعدين متساندين، يرون الغاية واحدة، وإن تباينت الطرق، والمقصود واحد، وإن تعددت الوسائل إليه.
فما أنفع العمل بهذا الحديث العظيم الذين أرشد فيه هذا النبي الكريم أمته إلى أن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ولهذا حث الشارع على لك ما يقوي هذا الأمر، وما يوجب المحبة بين المؤمنين، وما به يتم التعاون على المنافع، ونهى عن التفرق والتعادي، وتشتيت الكلمة في نصوص كثيرة حتى عد هذا أصلاً عظيماً من أصول الدين تجب مراعاته واعتباره وترجيحه على غيره والسعي إليه بكل ممكن.
فنسأل الله تعالى أن يحقق للمسلمين هذا الأصل ويؤلف بين قلوبهم، ويجعلهم يداً واحدة على من ناوأهم وعاداهم .. إنه كريم.





الحديث الرابع عشر
عن أبي موسى رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه سائل أو طالب حاجة، قال: "اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء"
متفق عليه.



وهذا الحديث متضمن لأصل كبير، وفائدة عظيمة، وهو أنه ينبغي للعبد أن يسعى في أمور الخير سواء أثمرت مقاصدها ونتائجها أو حصل بعضها، أو لم يتم منها شيء. وذلك كالشفاعة لأصحاب الحاجات عند الملوك والكبراء، ومن تعلقت حاجاتهم بهم فإن كثيراً من الناس يمتنع من السعي فيها إذا لم يعلم قبول شفاعته. فيفوّت على نفسه خيراً كثيراً من الله، ومعروفاً عند أخيه المسلم. فلهذا أمر النبي  أصحابه أن يساعدوا أصحاب الحاجة بالشفاعة لهم عنده ليتعجلوا الأجر عند الله، لقوله: "اشفعوا تؤجروا" فإن الشفاعة الحسنة محبوبة لله، ومرضية له. قال تعال: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} ومع تعجله للأجر الحاضر فإنه أيضاً يتعجل الإحسان وفعل المعروف مع أخيه، ويكون له بذلك عنده يد.
وأيضاً، فلعل شفاعته تكون سبباً لتحصيل مراده من المشفوع له أو لبعضه، ما هو الواقع. فالسعي في أمور الخير والمعروف التي يحتمل أن تحصل أو لا تحصل خير عاجل، وتعويد للنفوس على الإعانة على الخير، وتمهيد للقيام بالشفاعات التي يتحقق أو يُظن قبولها.
وفيه من الفوائد: السعي في كل ما يزيل اليأس، فإن الطلب والسعي عنوان على الرجاء والطمع في حصول المراد، وضده بضده، وفي الحديث دليل على الترغيب في توجيه الناس إلى فعل الخير، وأن الشفاعة لا يجب على المشفوع عنده قبولها إلا أن يشفع في إيصال الحقوق الواجبة، فإن الحق الواجب يجب أداؤه وإيصاله إلى مستحقه، ولو لم يشفع فيه. ويتأكد ذلك مع الشفاعة.
وفيه أيضاً: رحمة النبي  في حصول الخير لأمته بكل طريق. وهذا فرد من آلاف مؤلفة تدل على كمال رحمته ورأفته  ، فإن جميع الخير والمنافع العامة والخاصة لم تنلها الأمة إلى على يده وبوساطته وتعليمه وإرشاده، كما أنه أرشدهم لدفع الشرور والأضرار العامة والخاصة بكل طريق. فلقد بلَّغ وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة صلوات الله وسلامه وبركته عليه وعلى آله وصحبه.
قوله: "ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء" قضاؤه تعالى نوعان: قضاء قدري، يشمل الخير والشر والطاعات والمعاصي، بل يشمل جميع ما كان وما يكون، وجميع الحوادث السابقة واللاحقة. وأخصّ منه القضاء القدري الديني الذي يختص بما يحبه الله ويرضاه، وهذا الذي يقضي على لسان نبيه من القسم الثاني؛ إذ هو  عبد رسول، قد وفَّى مقام العبودية، وكمل مراتب الرسالة، فكل أقواله وأفعاله وهديه وأخلاقه عبودية لله متعلقة بمحبوبات الله تعالى. ولم يكن في حقه  شيء مباح محض لا ثواب فيه ولا أجر فضلاً عما ليس بمأمور. وهذا شأن العبد الرسول الذي اختار  هذه المرتبة التي هي أعلى المراتب حين خير بين أن يكون رسولاً ملكاً، أو عبداً رسولاً
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:39 pm

الحديث الخامس عشر
عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلوا الناس منازلهم"
رواه أبو داود.



يا له من حديث حكيم. فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة. فإن الحكمة وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها. والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره، وحكيم في شرعه وأمره ونهيه وقد أمر عباده بالحكمة ومراعاتها في كل شيء وأوامر النبي  وإرشاداته كلها تدور على الحكمة.
فمنها: هذا الحديث الجامع، إذ أمر أن ننزل الناس منازلهم. وذلك في جميع المعاملات، وجميع المخاطبات. والتعلم والتعليم.
فمن ذلك: أن الناس قسمان: قسم لهم حق خاص، كالوالدين والأولاد والأقارب، والجيران والأصحاب والعلماء، والمحسنين بحسب إحسانهم العام والخاص. فهذا القسم تنزيلهم منازلهم: القيام بحقوقهم المعروفة شرعاً وعرفاً، من البر والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة، وجميع ما لهم من الحقوق، فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة.
وقسم ليس لهم مزية اختصاص بحق خاص، وإنما لهم حق الإسلام وحق الإنسانية. فهؤلاء حقهم المشترك: أن تمنع عنهم الأذى والضرر بقول أو فعل، وأن تحب للمسلمين ما تحب لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكره لها من الشر. بل يجب منع الأذى عن جميع نوع الإنسان وإيصال ما تقدر عليه لهم من الإحسان.
ومما يدخل في هذا: أن يعاشر الخلق بحسب منازلهم. فالكبير له التوقير والاحترام. والصغير يعامله بالرحمة والرقة المناسب لحاله، والنظير يعامله بم يحب أن يعامله به. وللأم حق خاص بها، وللزوجة حق آخر، ويعامل من يُدل عليه ويثق به، ويتوسع معه، ما لا يعامل به من لا يثق به ولا يدل عليه. ويتكلم مع الملوك وأرباب الرئاسة بالكلام اللين المناسب لمراتبهم. ولهذا قال تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ويعامل العلماء بالتوقير والإجلال والتعلم، والتواضع لهم، وإظهار الافتقار والحاجة إلى علمهم النافع، وكثرة الدعاء لهم، خصوصاً وقت تعليمهم وفتواهم الخاصة والعامة.
ومن ذلك: أمر الصغار بالخير، ونهيهم عن الشر بالرفق والترغيب، وبذل ما يناسب من الدنيا لتنشيطهم وتوجيههم إلى الخير، واجتناب العنف القولي والفعلي. ولهذا قال  : "مُروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر" وكذلك سلك رسول الله  مع المؤلفة قلوبهم – من العطاء الدنيوي الكثير – ما يحصل به التأليف، ويترتب عليه من المصالح. ولم يفعل ذلك مع من هو معروف بالإيمان الصادق تنزيلاً للناس منازلهم.
وكذلك مخاطبة الزوجة والأولاد الصغار بالخطاب اللائق بهم الذي فيه بسطهم، وإدخال السرور عليهم.
وكذلك من تنزيل الناس منازلهم: أن تجعل الوظائف الدينية والدنيوية والممتزجة منهما للأكفاء المتميزين، الذين يفضلون غيرهم في ولاية تلك الوظيفة. فمعلوم أن ولاية الملك: أن الواجب فيها خصوصاً – وفي غيرها عموماً – مشاورة أهل الحل والعقد في تولية نم يصلح لها ممن جميع بين القوة والشجاعة والحلم، ومعرفة السياسة الداخلية والخارجية، ومن له القوة الكافية لتنفيذ العدل، وإيصال الحقوق إلى أهلها، وردع الظلمة والمجرمين، وغير ذلك مما يدخل في الولاية.
وكذلك ولاية القضاء: يختار لها الأعلم بالشرع وبالواقع، الأفضل ي دينه وعقله وصفاته الحميدة.
وكذلك ولاية الإمامة في المساجد في الجمعة والجماعة: يختار لها الأعلم بأحكام العبادات الأتقى، ثم الأمثل فالمثل – وكذلك ولاية قيادة الجيوش: يختار لها أهل القوة والشجاعة والرأي والنصح، والمعرفة لفنون الحرب وأدواتها، وما يتبع ذلك مما تتوقف عليه هذه الوظيفة المهمة التي هي من أهم الوظائف وأخطرها، إلى غير ذلك من الولايات الكبار والصغار. فإنها داخلة في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وهذه الولايات من أعظم الأمانات. فيتعين أن تؤدى إلى أهلها، وأن يوظف فيها أهل الكفاءة بها. وكل وظيفة لها أكفاء مختصون. وهو داخل في هذا الحديث الشريف.
وكذلك يدخل في ذلك معاملة العصاة والمجرمين. فمن رتب الشارع على جرمه عقوبة من حَدٍّ ونحوه تعين ما عينه الشارع، لأنه هو عين المصلحة العامة الشاملة. ومن لم يعين له عقوبة عُزِّر بحسب حاله ومقامه. فمنهم من يكفيه التوبيخ والكلام المناسب لفعلته، ومنهم من لا يردعه إلا العقوبة البليغة.
وكذلك في الصدقة والهدية، ليس عطية الطَّواف الذي يدور على الناس فتكفيه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان كعطية الفقير المتعفف الذي أصابته العَيْلة بعد المغني. وفي الأثر (ارحموا عزيز قوم ذل).
وكذلك يميز من له آثار وسوابق وغناء ونفع للمسلمين على من ليس كذلك.
فهذه الأمور وما أشبهها داخلة في هذا الكلام الجامع الذي تواطأ عليه الشرع والعقل. وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.





لحديث السادس عشر
عن أبي صِرْمَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضارَّ ضار الله به. ومن شاقَّ شَقَّ الله عليه"
رواه الترمذي وابن ماجه.



هذا الحديث دلّ على أصلين من أصول الشريعة:
أحدهما: أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر. وهذا من حكمة الله التي يحمد عليها. فكما أن من عمل ما يحبه الله أحبه الله. ومن عمل ما يبغضه أبغضه الله، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن فرّج عن مؤمن كرب من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه، كذلك من ضار مسلماً ضره الله، ومن مَكَر به مكر الله به، ومن شق عليه شق الله عليه، إلى غير ذلك من الأمثلة الداخلة في هذا الأصل.
الأصل الثاني: منع الضرر والمضارة، وأنه "لا ضرر ولا ضرار". وهذا يشمل أنواع الضرر كله.
والضرر يرجع إلى أحد أمرين: إما تفويت مصلحة، أو حصول مضرة بوجه من الوجوه. فالضرر غير المستحق لا يحل إيصاله وعمله مع الناس، بل يجب على الإنسان أن يمنع ضرره وأذاه عنهم من جميع الوجوه.
فيدخل في ذلك: التدليس والغش في المعاملات وكتم العيوب فيها، والمكر والخداع والنجش، وتلقي الركبان وبيع المسلم على بيع أخيه والشراء على شرائه، ومثله الإجارات، وجميع المعاملات، والخِطْبة على خِطْبة أخيه، وخِطْبة الوظائف التي فيها أهل لها قائم بها. فكل هذا من المضارة المنهي عنها.
وكل معاملة من هذا النوع فإن الله لا يبارك فيها، لأنه من ضارَّ مسلماً ضارّه الله، ومن ضاره الله ترحّل عنه الخير، وتوجه إليه الشر، وذلك بما كسبت يداه.
ويدخل في ذلك: مضارة الشريك لشريكه، والجار لجاره، بقول أو فعل، حتى إنه لا يحل له أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، فضلاً عن مباشرة الإضرار به.
ويدخل في ذلك: مضارة الغريم لغريمه، وسعيه في المعاملات التي تضر بغريمه، حتى إنه لا يحل له أن يتصدق ويترك ما وجب عليه من الدين إلا بإذن غريمه، أو برهن موجوداته أحد غرمائه دون الباقين، أو يقف، أو يعتق ما يضر بغريمه، أو ينفق أكثر من اللازم بغير إذنه.
كذلك الضرر في الوصايا: كما قال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} بأن يخص أحد ورثته بأكثر مما له، أو ينقص الوارث، أو يوصي لغير وارثه بقصد الإضرار بالورثة.
وكذلك لا يحل إضرار الزوج بزوجته من وجوه كثيرة، إما أن يعضلها ظلماً لتفتدى منه، أو يراجعها لقصد الإضرار، أو يميل إلى إحدى زوجتيه ميلاً يضرّ بالأخرى، ويجعلها كالمعلقة.
ومن ذلك: الحيف في الأحكام والشهادات والقسمة وغيرها على أحد الشخصين لنفع الآخر. فكل هذا داخل في المضرة. وفاعله مستحق للعقوبة، وأن يضار الله به.
وأشد من ذلك: الوقيعة في الناس عند الولاة والأمراء، ليغريهم بعقوبته أو أخذ ما له، أو منعه من حق هو له، فإن من عمل هذا العمل فإنه باغٍ، فليتوقع العقوبة العاجلة والآجلة.
ومن هذا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم "أن يورد مُمْرِض على مُصِحّ" لما في ذلك من الضرر.
وكذلك نهى الجذْمَى ونحوهم عن مخالطة الناس، وهذا وغيره داخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} ونهى  عن ترويع المسلم، ولو على وجه المزح.
ومن هذا السخرية بالخلق، والاستهزاء بهم، والوقيعة في أعراضهم، والتحريش بينهم. فكله داخل في المضارة والمشاقة الموجب للعقوبة.
وكما يدل الحديث بمنطوقه: أن من ضارّ وشاق ضرَّه الله وشقَّ عليه، فإن مفهومه يدلّ على: أن من أزال الضرر والمشقة عن المسلم فإن الله يجلب له الخير، ويدفع عنه الضرر والمشاق، جزاء وفاقاً، سواء كان متعلقاً بنفسه أو بغيره.




الحديث السابع عشر
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت. وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"
رواه الإمام أحمد والترمذي.



هذا حديث عظيم جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حق الله وحقوق العباد. فحقّ الله على عباده: أن يتقوه حقّ تُقاته. فيتّقوا سخطه وعذابه باجتناب المنهيات وأداء الواجبات.
وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين، ووصية كل رسول لقومه أن يقول: "اعبدوا الله واتقوه".
وقد ذكر الله خصال التقوى في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وفي قوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ثم ذكر خصال التقوى فقال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
فوصف المتقين بالإيمان بأصوله وعقائده وأعماله الظاهرة والباطنة وبأداء العبادات البدنية والعبادات المالية، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وبالعفو عن الناس، واحتمال أذاهم، والإحسان إليهم، وبمبادرتهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بالاستغفار والتوبة، فأمر صلى الله عليه وسلم ووصى بملازمة التقوى حيثما كان العبد في كل وقت وكل مكان، وكل حالة من أحواله، لأنه مضطر إلى التقوى غاية الاضطرار، لا يستغني عنها في كل حالة من أحواله.
ثم لما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق التقوى وواجباتها أمر بما يدفع ذلك ويمحوه. وهو أن يتبع الحسنة السيئة "والحسنة" اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله تعالى: وأعظم الحسنات الدافعة للسيئات التوبة النصوح والاستغفار والإنابة إلى الله بذكره وحبه، وخوفه ورجائه، والطمع فيه وفي فضله كل وقت. ومن ذلك الكفارات المالية والبدنية التي حددها الشارع.
ومن الحسنات التي تدفع السيئات: العفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين، وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين. قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} وقال  : "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" وكم في النصوص من ترتيب المغفرة على كثير من الطاعات.
ومما يكفر الله به الخطايا: المصائب؛ فإنه لا يصيب المؤمن من هَمٍّ ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله عنه بها خطاياه. وهي إما فوات محبوب، أو حصول مكروه بدني أو قلبي، أو مالي، داخلي أو خارجي، لكن المصائب بغير فعل العبد. فلهذا أمره بما هو من فعله، وهو أن يتبع السيئة الحسنة.
ثم لما ذكر حق الله – وهو الوصية بالتقوى الجامعة لعقائد الدين وأعماله الباطنة والظاهرة – قال "وخالق الناس بخلق حسن".
وأول الخلق الحسن: أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وأخص ما يكون بالخلق الحسن: سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته ومشقة حشمته. وقد يحسن المزح أحياناً إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.
ومن الخلق الحسن: أن تعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل.
فمن اتقى الله، وحقق تقواه، وخالق الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلق الحسن فقد حاز الخير كله؛ لأنه قام بحق الله وحقوق العباد ولأنه كان من المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله





الحديث الثامن عشر
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الظلم ظلمات يوم القيامة"
متفق عليه.



هذا الحديث فيه التحذير من الظلم، والحث على ضده وهو العدل. والشريعة كلها عدل، آمرة بالعدل، ناهية عن الظلم. قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} ، {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} فإن الإيمان – أصوله وفروعه، باطنه وظاهره – كله عدل، وضده ظلم. فأعدل العدل وأصله: الاعتراف وإخلاص التوحيد لله، والإيمان بصفاته وأسمائه الحسنى، وإخلاص الدين والعبادة له. وأعظم الظلم، وأشده الشرك بالله، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وذلك أن العدل وضع الشيء في موضعه، والقيام بالحقوق الواجبة. والظلم عكسه فأعظم الحقوق. وأوجبها: حق الله على عباده: أن يعرفوه ويعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، ثم القيام بأصول الإيمان، وشرائع الإسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وحج البيت الحرام، والجهاد في سبيل الله قولاً وفعلاً، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
ومن الظلم: الإخلال بشيء من ذلك، كما أن من العدل: القيام بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان به ومحبته، وتقديمها على محبة الخلق كلهم، وطاعته وتوقيره وتبجيله، وتقديم أمره وقوله على أمر غيره وقوله.
ومن الظلم العظيم: أن يخل العبد بشيء من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأرحم بهم وأرأف بهم من كل أحد من الخلق، وهو الذي لم يصل إلى أحد خير إلا على يديه.
ومن العدل: بر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء حقوق الأصحاب والمعاملين. ومن الظلم: الإخلال بذلك.
ومن العدل: قيام كل من الزوجين بحق الآخر. ومن أخل بذلك منهما فهو ظالم.
وظلم الناس أنواع كثيرة، يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
فالظلم كله بأنواعه ظلمات يوم القيامة، يعاقب أهلها على قدر ظلمهم، ويجازى المظلومون من حسنات الظالمين. فإن لم يكن لهم حسنات أو فنيت، أخذ من سيئاتهم فطرحت على الظالمين.
والعدل كله نور يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}
والله تعالى حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً. فالله تعالى على صراط مستقيم في أقواله وأفعاله وجزائه. وهو العدل. وقد نصب لعباده الصراط المستقيم الذي يرجع إلى العدل، ومن عدل عنه عدل إلى الظلم والجور الموصل إلى الجحيم.
والظلم ثلاثة أنواع: نوع لا يغفره الله، وهو الشرك بالله {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}
ونوع لا يترك الله منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم لبعض. فمن كمال عدله: أن يقص الخلق بعضهم من بعض بقدر مظالمهم.
ونوع تحت مشيئة الله: إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عن أهله. وهو الذنوب التي بين العباد وبين ربهم فيما دون الشرك.
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:42 pm

الحديث التاسع عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم. ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تَزْدروا نعمة الله عليكم"
متفق عليه.



يا لها من وصية نافعة، وكلمة شافية وافية. فهذا يدل على الحث على شكر الله بالاعتراف بنعمه، والتحدث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر. فإن الشكر لله هو رأس العبادة، وأصل الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصة أو عامة إلا من الله. وهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع السوء والسيئات. فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر.
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله. وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم. فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه. فإنه لا يزال يرى خلقاً كثيراً دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ويقول: الحمد لله الذي أنعم عليَّ وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.
ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم، فيحمد ربه على كمال العقل، ويشاهد عالماً كثيراً ليس لهم قوت مدخر، ولا مساكن يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه.
ويرى خلقاً كثيراً قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام وهو مُعافى من ذلك، مُسَرْبل بالعافية. ويشاهد خلقاً كثيراً قد ابتُلوا ببلاء أفظع من ذلك، بانحراف الدين، والوقوع في قاذورات المعاصي. والله قد حفظه منها أو من كثير منها.
ويتأمل أناساً كثيرين قد استولى عليهم الهم، وملكهم الحزن والوساوس، وضيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيراً يفوق بهذه النعمة – نعمة القناعة وراحة القلب – كثيراً من الأغنياء.
ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور يجد عالماً كثيراً أعظم منه وأشد مصيبة، فيحمد الله على وجود العافية وعلى تخفيف البلاء، فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظم منه.
فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل شكره في قوة ونمو، ولم تزل نعم الله عليه تترى وتتوالى. ومن عكس القضية فارتفع نظره وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله، ويفقد شكره. ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم وتسابقت إليه النقم، وامتحن بالغم الملازم، والحزم الدائم، والتسخط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضى بالله رباً ومدبراً. وذلك ضرر في الدين والدنا وخسران مبين.
واعلم أن من تفكر في كثرة نعم الله، وتفطن لآلاء الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محض فضل الله وإحسانه، وأن جنساً من نعم الله لا يقدر العبد على إحصائه وتعداده، فضلاً عن جميع الأجناس، فضلاً عن شكرها. فإنه يضطر إلى الاعتراف التام بالنعم، وكثرة الثناء على الله، ويستحي من ربه أن يستعين بشيء من نعمه على ما لا يحبه ويرضاه، وأوجب له الحياء من ربه الذي هو من أفضل شعب الإيمان فاستحيى من ربه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره.
ولما كان على الشكر مدار الخير وعنوانه قال لمعاذ بن جبل: "إني أحبك، فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة مكتوبة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" وكان يقول: "اللهم اجعلني لك شكَّاراً، لك ذَكَّاراً. اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأكثر ذكرك، وأتبع نصحك، وأحفظ وصيتك".
وقد اعترف أعظم الشاكرين بالعجز عن شكر نعم الله، فقال : "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" والله أعلم.





الحديث العشرون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم – إذا أحدث – حتى يتوضأ"
متفق عليه.



يدل الحديث بمنطوقه: أن من لم يتوضأ إذا أحدث فصلاته غير مقبولة: أي غير صحيحة، ولا مجزئة، وبمفهومه: أن من توضأ قبلت صلاته: أي مع بقية ما يجب ويشترط للصلاة؛ لأن الشارع يعلق كثيراً من الأحكام على أمور معينة لا تكفي وحدها لترتب الحكم، حتى ينظم إليها بقية الشروط، وحتى تنتفي الموانع. وهذا الأصل الشرعي متفق عليه بين أهل العلم؛ لأن العبادة التي تحتوي على أمور كثيرة – كالصلاة مثلاً – لا يشترط أن تجمع أحكامها في كلام الشارع في موضع واحد، بل يجمع جميع ما ورد فيها من الأحكام، فيؤخذ مجموع أحكامها من نصوص متعددة. وهذا من أكبر الأسباب لوضع الفقهاء علوم الفقه والأحكام، وترتيبها وتبويبها، وضم الأجناس والأنواع بعضها لبعض للتقريب على غيرهم. فلهم في ذلك اليد البيضاء فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
وهذا الأصل ينبغي أن تعتبره في كل موضع. وهو أن الأحكام لا تتم إلا باجتماع شروطها ولوازمها، وانتفاء موانعها.
والحديث يشمل جميع نواقض الوضوء. فيدخل فيه الخارج من السبيلين، والنوم الناقض للوضوء، والخارج الفاحش من بقية البدن إذا كان نجساً، وأكل لحم الإبل، ولمس المرأة لشهوة، ولمس الفرج باليد. وفي بعضها خلاف.
فكل من وجه منه شيء من هذه النواقض لم تصح صلاته، حتى يتوضأ الوضوء الشرعي. فيغسل الأعضاء التي نص الله عليها في سورة المائدة، مع الترتيب والموالاة، أو يتطهر بالتراب بدل الماء عند تعذر استعمال الماء: إما لعدمه، وإما لخوفه باستعماله الضرر.
وفي هذا دليل على أنه لو صلى ناسياً أو جاهلاً حدثه فعليه الإعادة لعموم الحديث، وهو متفق عليه. فهو وإن كان مثاباً على فعله صورة الصلاة ما فيها من العبادات، لكن عليه الإعادة لإبراء ذمته. وهذا بخلاف من تطهر ونسي ما على بدنه أو ثوبه من النجاسة فإنه لا إعادة عليه على الصحيح؛ لأن الطهارة من باب فعل الأمور الذي لا تبرأ الذمة إلا بفعله. وأما اجتناب النجاسة فإنه من باب اجتناب المحظور الذي إذا فعل والإنسان معذور، فلا إعادة عليه.




الحديث الحادي والعشرون
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، يعني الاستنجاء" قال الراوي: ونسيت العاشرة إلى أن تكون المضمضة.
رواه مسلم.



"الفطرة" هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين عليها: على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين، لقبول الخير والإخلاص لله، والتقرب إليه، وجعل تعالى شرائع الفطرة نوعين.
أحدهما: يطهر القلب والروح، وهو الإيمان بالله وتوابعه: من خوفه ورجائه، ومحبته والإنابة إليه. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فهذه تزكي النفس، وتطهر القلب وتنميه، وتذهب عنه الآفات الرذيلة، وتحليه بالأخلاق الجميلة، وهي كلها ترجع إلى أصول الإيمان وأعمال القلوب.
والنوع الثاني: ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته، ودفع الأوساخ والأقذار عنه، وهي هذه العشرة، وهي نم محاسن الدين الإسلامي؛ إذ هي كلها تنظيف للأعضاء، وتكميل لها، لتتم صحتها وتكون مستعدة لكل ما يراد منها.
فأما المضمضة والاستنشاق: فإنهما مشروعان في طهارة الحدث الأصغر والأكبر بالاتفاق. وهما فرضان فيهما من تطهير الفم والأنف وتنظيفهما، لأن الفم والأنف يتوارد عليهما كثير من الأوساخ والأبخرة ونحوها. وهو مضطر إلى ذلك وإزالته. وكذلك السواك يطهر الفم. فهو "مطهرة للفم مرضاة للرب" ولهذا يشرع كل وقت ويتأكد عند الوضوء والصلاة والانتباه من النوم، وتغير الفم، وصفرة الأسنان ونحوها.
وأما قصّ الشارب أو حَفُّه حتى تبدو الشَّفَّة، فلما في ذلك من النظافة، والتحرز مما يخرج من الأنف، فإن شعر الشارب إذا تدلى على الشفة باشر به ما يتناوله من مأكول ومشروب، مع تشويه الخلقة بوفرته، وإن استحسنه من لا يعبأ به. وهذا بخلاف اللحية، فإن الله جعلها وقاراً للرجل وجمالاً به. ولهذا يبقى جماله في حال كبره بوجود شعر اللحية. واعتبر ذلك بمن يعصي الرسول  فيحلقها، كيف يبقى وجهه مشوهاً قد ذهب محاسنه، وخصوصاً وقت الكبر. فيكون كالمرأة العجوز إذا وصلت إلى هذا السن ذهبت محاسنها، ولو كانت في صباها من أجمل النساء. وهذا محسوس، ولكن العوائد والتقليد الأعمى يوجب استحسان القبيح، واستقباح الحسن.
وأما قص الأظافر ونتف الإبط، وغسل البراجم، وهي مطاوي البدن التي تجتمع فيها الأوساخ – فلها من التنظيف وإزالة المؤذيات ما لا يمكن جحده، وكذلك حلق العانة.
وأما الاستنجاء – وهو إزالة الخارج من السبيلين بماء أو حجر – فهو لازم وشرط من شروط الطهارة.
فعلمت أن هذه الأشياء كلها، تكمل ظاهر الإنسان وتطهره وتنظفه، وتدفع عنه الأشياء الضارة والمستقبحة، والنظافة من الإيمان.
والمقصود: أن الفطرة هي شاملة لجميع الشريعة، باطنها وظاهرها؛ لأنها تنفي الباطن من الأخلاق الرذيلة، وتحلّيه بالأخلاق الجميلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان والتوحيد، والإخلاص لله والإنابة إليه، وتنقي الظاهر من الأنجاس والأوساخ وأسبابها. وتطهره الطهارة الحسية والطهارة المعنوية. ولهذا قال  : "الطهور شَطْر الإيمان" وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} .
فالشريعة كلها طهارة وزكاء وتنمية وتكميل، وحث على معالي الأمور، ونهي عن سفسافها، والله أعلم.




الحديث الثاني والعشرون
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الماء طهور لا ينجسه شيء".
رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي.



هذا الحديث الصحيح يدل على أصل جامع، وهو أن الماء – أي جميع المياه النابعة من الأرض، والنازلة من السماء الباقية على خلقتها، أو المتغيرة بمقرها أو ممرها، أو بما يلقى فيها من الطاهرات ولو تغيراً كثيراً – طاهرة تستعمل في الطهارة وغيرها. ولا يستثنى من هذا الكلام الجامع إلا الماء المتغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة، كما في بعض ألفاظ هذا الحديث.
وقد اتفق العلماء على نجاسة الماء المتغير بالنجاسة. واستدل عليه الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى آخر الآية. يعني: ومتى ظهرت أوصاف هذه الأشياء المحرمة في الماء صار نجساً خبيثاً.
وهذا الحديث وغيره يدل على أن الماء المتغير بالطاهرات طهور. وعلى أن ما خلت به المرأة لا يمنع منه مطلقاً. وعلى طهورية ما انغمست فيه يد القائم من نوم الليل، وإنما ينهى القائم من النوم عن غمسها حتى يغسلها ثلاثاً. وأما المنع من الماء فلا يدل الحديث عليه.
والمقصود: أن هذا الحديث يدل على أن الماء قسمان: نجس، وهو ما تغير أحد أوصافه بالنجاسة، قليلاً كان أو كثيراً. وطهور، وهو ما ليس كذلك. وأن إثبات نوع ثالث – لا طهور ولا نجس، بل طاهر غير مطهر، ليس عليه دليل شرعي، فيبقى على أصل الطهورية.
ويؤيد هذا العموم قوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا}
وهذا عام في كل ماء، لأنه نكرة في سياق النفي، فيشمل كل ماء خرج منه الماء النجس للإجماع عليه.
ودلّ هذا الحديث أيضاً: أن الأصل في المياه الطهارة. وكذلك في غيرها. فمتى حصل الشك في شيء منها: هل وجد فيه سبب التنجيس أم لا؟ فالأصل الطهارة.









الحديث الثالث والعشرون
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوّافين عليكم والطّوّافات"
رواه مالك وأحمد وأهل السنن الأربع.



هذا الحديث محتوٍ على أصلين:
أحدهما: أن المشقة تجلب التيسير. وذلك أصل كبير من أصول الشريعة، من جملته: أن هذه الأشياء التي يشق التحرز منها طاهرة، لا يجب غسل ما باشرت بفيها أو يدها أو رجلها، لأنه علل ذلك بقوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" كما أباح الاستجمار في محل الخارج من السبيلين، ومسح ما أصابته النجاسة من النعلين والخفين، وأسفل الثوب، وعفا عن يسير طين الشوارع النجس، وأبيح الدم الباقي في اللحم والعروق بعد الدم المسفوح، وأبيح ما أصابه فم الكلب من الصيد، وما أشبه ذلك مما يجمعه علة واحدة، وهي المشقة.
الثاني: أن الهرة وما دونها في الخلقة كالفأرة ونحوها طاهرة في الحياة لا ينجس ما باشرته من طعام وشراب وثياب وغيرها، ولذلك قال أصحابنا: الحيوانات أقسام خمسة:
أولها: نجس حياً وميتاً في ذاته وأجزائه وفضلاته. وذلك كالكلاب والسباع كلها، والخنزير ونحوها.
الثاني: ما كان طاهراً في الحياة نجساً بعد الممات. وذلك كالهرة وما دونها في الخلقة. ولا تحله الذكاة ولا غيرها.
الثالث: ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات، ولكنه لا يحل أكله، وذلك كالحشرات التي لا دم لها سائل.
الرابع: ما كان طاهراً في الحياة وبعد الذكاة. وذلك كالحيوانات المباح أكلها، كبهيمة الأنعام ونحوها.
الخامس: ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات، ذُكِّي أو لم يُذَك وهو حلال، وذلك كحيوانات البحر كلها والجراد.
واستدل كثير من أهل العلم بقوله  : "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" بطهارة الصبيان، وطهارت أفواههم، ولو بعد ما أصابتها النجاسة، وكذلك طهارة ريق الحمار والبغل وعرقه وشعره. وأين مشقة الهر من مشقة الحمار والبغل؟
ويدل عليه: أنه  كان يركبها هو وأصحابه، ولم يكونوا يتوقَّون منها ما ذكرنا. وهذا هو الصواب.
وأما قوله  في لحوم الحمر يوم خيبر: "إنها رجس" أي: لحمها رجس نجس حرام أكله. وأما ريقها وعرقها وشعرها: فلم ينه عنه، ولم يتوقّه  .
وأما الكلاب: فإنه  أمر بغسل ما ولغت فيه سبع مرات إحداهن بالتراب.







الحديث الرابع والعشرون


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"
رواه مسلم.



هذا الحديث يدل على عظيم فضل الله وكرمه بتفضيله هذه العبادات الثلاث العظيمة، وأن لها عند الله المنزلة العالية، وثمراتها لا تعدّ ولا تحصى.
فمن ثمراتها: أن الله جعلها مكملة لدين العبد وإسلامه، وأنها منمية للإيمان، مسقية لشجرته. فإن الله غرس شجرة الإيمان في قلوب المؤمنين بحسب إيمانهم، وقَدَّرَ من ألطافه وفضله من الواجبات والسنن ما يسقي هذه الشجرة وينميها، ويدفع عنها الآفات حتى تكمل وتؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، وجعلها تنفي عنها الآفات.
فالذنوب ضررها عظيم، وتنقيصها للإيمان معلوم.
فهذه الفرائض الثلاث إذا تجنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بها الصغائر والخطيئات. وهي من أعظم ما يدخل في قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} كما أن الله جعل من لطفه تجنب الكبائر سبباً لتفكير الصغائر. قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} أما الكبائر فلا بد لها من توبة.
وعلم من هذا الحديث: أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للسيئات، فإنما المراد به الصغائر؛ لأن هذه العبادات الكبار إذا كانت لا تكفر بها الكبائر فكيف بما دونها؟
والحديث صريح في أن الذنوب قسمان: كبائر، وصغائر.
وقد كثر كلام الناس في الفرق بين الصغائر والكبائر. وأحسن ما قيل: إن الكبيرة ما رتب عليه حد في الدنيا، أو توعد عليه بالآخرة أو لعن صاحبه، أو رتب عليه غضب ونحوه، والصغائر ما عدا ذلك.
أو يقال: الكبائر: ما كان تحريمه تحريم المقاصد. والصغائر: ما حرم تحريم الوسائل، فالوسائل: كالنظرة المحرمة مع الخلوة بالأجنبية. والكبيرة: نفس الزنا، وكربا الفضل مع ربا النسيئة، ونحو ذلك. والله أعلم.

.
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:45 pm

الحديث الخامس والعشرون

عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صلُّوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"
متفق عليه.



هذا الحديث احتوى على ثلاث جمل، أولها أعظمها:
الجملة الأولى: قوله "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" فيه مشروعية الأذان ووجوبه للأمر به، وكونه بعد دخول الوقت. ويستثنى من ذلك صلاة الفجر. فإنه  قال: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. فإنه لا ينادى حتى يقال له: أصبحت، أصبحت" وأن الأذان فرض كفاية، لا فرض عين؛ لأن الأمر من الشارع إن خوطب به كل شخص مكلف وطلب حصوله منه، فهو فرض عين. وإن طلب حصوله فقط، بقطع النظر من الأعيان، فهو فرض كفاية. وهنا قال: "فليؤذن لكم أحدكم" وألفاظ الأذان معروفة.
وينبغي أن يكون المؤذن: صَيِّتاً أميناً، عالماً بالوقت، متحرياً له، لأنه أعظم لحصول المقصود. ويكفي من يحصل به الإعلام غالباً.
والحديث يدل على وجوب الأذان في الحضر والسفر. والإقامة من تمام الأذان، لأن الأذان: الإعلام بدخول الوقت للصلاة، والإقامة: الإعلام بالقيام إليها.
وقد وردت النصوص الكثيرة بفضله، وكثرة ثوابه، واستحباب إجابة المؤذن، وأن يقول المجيب مثل ما يقول المؤذن إلا إذا قال: (حَيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) فيقول كلمة الاستعانة بالله على ما دعا إليه من الصلاة والفلاح الذي هو الخير كله: "لا حول ولا قوة إلا بالله" ثم يصلي على النبي  ويقول: (اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة. وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) ثم يدعو لنفسه؛ لأنه من مواطن الإجابة التي ينبغي للداعي قصدها.
الجملة الثانية: قوله: "وليؤمكم أكبركم" فيه: وجوب صلاة الجماعة وأن أقلها إمام ومأموم، وأن الأولى بالإمامة أقومهم بمقصود الإمامة، كما ثبت في الصحيح: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنّة. فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة أو إسلاماً" فإن كانوا متقاربين – كما في الحديث – كان الأولى منهما أكبرهما؛ فإن تقديم الأكبر مشروع في كل أمر طلب فيه الترتيب، إذا لم يكن للصغير مزيد فضل؛ لقوله  : "كَبِّرْ، كَبِّرْ".
وإذا ترتبت الصلاة بإمام ومأموم فإنما جعل الإمام ليؤتم به. فإذا كبر: كَبَّر من وراءه. وإذا ركع، وسجد، ورفع: تبعه من بعده وينهى عن موافقته في أفعال الصلاة. وأما مسابقته الإمام، والتقدم عليه في ركوع أو سجود، أو خفض أو رفع، فإن ذلك حرام، مبطل للصلاة. فيؤمر المأمومون بالاقتداء بإمامهم. وينهون عن الموافقة والمسابقة والتخلف الكثير. فإن كانوا اثنين فأكثر فالأفضل: أن يصفوا خلفه. ويجوز عن يمينه، أو عن جانبيه. والرجل الواحد يصف عن يمين الإمام. والمرأة خلف الرجل، أو الرجل. وتقف وحدها، إلا إذا كان معها نساء فيكنَّ كالرجال في وجوب المصافّة. وإن وقف الرجل الواحد خلف الإمام أو خلف الصف لغير عذر بطلت صلاته.
وعلى الإمام تحصيل مقصود الإمامة من الجهر بالتكبير في الانتقالات والتسميع، ومن الجهر في القراءة الجهرية. وعليه مراعاة المأمومين في التقدم والتأخر، والتخفيف مع الإتمام.
الجملة الثالثة: وهي الأولى في هذا الحديث – قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وهذا تعليم منه  بالقول والفعل، كما فعل ذلك في الحج، حيث كان يقوم بأداء المناسك ويقول للناس: "خذوا عني مناسككم" وهذه الجملة تأتي على جميع ما كان يفعله ويقوله ويأمر به في الصلاة، وذلك بأن يستكمل العبد جميع شروط الصلاة، ثم يقوم إلى صلاته ويستقبل القبلة، ناوياً الصلاة المعينة بقلبه. ويقول "الله أكبر" ثم يستفتح، ويتعوذ بما ثبت عن النبي  من أنواع الاستفتاحات والتعوذات، ويقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" ثم يقرأ الفاتحة، وسورة طويلة في صلاة الفجر، وقصيرة في صلاة المغرب، وبين ذلك في بقية الصلوات، ثم يركع كبراً رافعاً يديه حذو منكبيه في ركوعه وفي رفعه منه في كل ركعة، وعند تكبيرة الإحرام. وإذا قام من التشهد الأول إلى الصحيح في الصلاة الرباعية والثلاثية، ويقول: "سبحان ربي العظيم" مرة واجبة. وأقل الكمال: ثلاث مرات، فأكثر. وكذلك تسبيح السجود قول: "سبحان ربي الأعلى" ثم يرفع رأسه قائلاً – إماماً ومنفرداً -: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه" وكذلك المأموم، إلا أنه لا يقول: "سمع الله لمن حمده" ثم يكبر ويسجد على سبعة أعضاء:
القدمين، والركبتين، والكفين، والجبهة. مع الأنف، ويمكنها من الأرض، ويجافيها، ولا يبسط ذراعيه انبساط الكلب، ثم يرفع مكبراً، ويجلس مفترشاً جالساً على رجله اليسرى، ناصباً رجله اليمنى، موجهاً أصابعها إلى القبلة. والصلاة جلوسها كله افتراش، إلا في التشهد الأخير. فإنه ينبغي له أن يتورّك، فيقعد على الأرض، ويخرج رجله اليسرى عن يمينه، ويقول بين السجدتين: "رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني" ثم يسجد الثانية كالأولى. وهكذا يفعل في كل ركعة، وعليه أن يطمئن في كل رفع وخفض، وركوع وسجود وقيام وقعود، ثم يتشهد فيقول: "التحيات لله، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" هذا التشهد الأول، ثم يقوم، إن كانت رباعية أو ثلاثية، ويصلي بقيتها بالفاتحة وحدها، وإن كان في التشهد الذي يليه السلام قال: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" ويدعو بما أحب، ثم يسلمّ، ويذكر الله بما ورد، فجميع الوارد عن النبي  في الصلاة من فعله وقوله وتعليمه وإرشاده داخل في قوله: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" وهو مأمور به، أمر إيجاب أو استحباب بحسب الدلالة.
فما كان من أجزائها، لا يسقط سهواً ولا جهلاً، ولا عمداً قيل له: ركن، كتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والتشهد الأخير، والسلام، وكالقيام، والركوع، والسجود، والاعتدال عنهما.
وما كان يسقط سهواً ويجبره سجود السهو قيل له: واجب، كالتشهد الأول، والجلوس له، والتكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقول: "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفر، وقول: "ربنا ولك الحمد" لكل مصلّ، وقول: "سبحان ربي العظيم" مرّة في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" مرة في السجود، وقول: "ربي اغفر لي" بين السجدتين.
وما سوى ذلك فإنه من مكملاتها ومستحباتها. وخصوصاً روح الصلاة ولُبُها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله من قراءة، وذكر ودعاء، وما يفعله من قيام وقعود، وركوع وسجود، والخضوع لله، والخشوع فيها لله.
ومما يدخل في ذلك: تجنب ما نهى عنه الرسول  في الصلاة: كالضحك، والكلام، وكثرة الحركة المتتابعة لغير ضرورة، فإن الصلاة لا تتم إلا بوجود شروطها وأركانها وواجباتها، وانتفاء مبطلاتها التي ترجع إلى أمرين: إما إخلال بلازم، أو فعل ممنوع فيها، كالكلام ونحوه.






الحديث السادس والعشرون

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرُّعبِ مسيرة شهرن وجُعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً. فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"
متفق عليه.



فُضِّل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفضائل كثيرة فاق بها جميع الأنبياء. فكل خصلة حميدة ترجع إلى العلوم النافعة، والمعارف الصحيحة، والعمل الصالح. فلنبينا منها أعلاها وأفضلها وأكملها. ولهذا لما ذكر الله أعيان الأنبياء الكرام قال لنبيه: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وهداهم: هو ما كانوا عليه من الفضائل الظاهرة والباطنة.
وقد تمم  ما أمر به، وفاق جميع الخلق، ولذلك خصّ الله نبينا بخصائص لما يشاركه فيها أحد من الأنبياء، منها: هذه الخمس التي عادت على أمته بكل خير وبركة ونفع.
إحداها: أنه نصر بالرعب مسيرة شهر، وهذا نصر رباني، وجند من السماء يعين الله به رسوله وأمته المتبعين لهديه، فمتى كان عدوه عنه مسافة شهر فأقل فإنه مرعوب منه، وإذا أراد الله نصر أحد ألقى في قلوب أعدائه الرعب، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} وألقى في قلوب المؤمنين من القوة والثبات والسكينة والطمأنينة ما هو أعظم أسباب النصر، فالله تعالى وعد نبينا وأمته بالنصر العظيم، وأن يعينهم بأسباب أرشدهم إليها، كالاجتماع والائتلاف، والصبر والاستعداد للأعداء بكل مستطاع من القوة إلى غير ذلك من الإرشادات الحكيمة، وساعدهم بهذا النصر، وقد فعل تبارك وتعالى، كما هو معروف من حال نبينا  والمتبعين له من خلفائه الراشدين والملوك الصالحين، تم لهم من النصر والعزّ العظيم في أسرع وقت ما لم يتم لغيرهم.
الثانية: قوله: "وجعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً" وحقق ذلك بقوله: "فأينما أدركت أحداً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره" فجميع بقاع الأرض مسجد يصلى فيها من غير استثناء إلا ما نص الشارع على المنع منه. وقد ثبت النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام، وأعطان الإبل. وكذلك الموضع المغصوب والنجس لاشتراط الطهارة لبدن المصلي وثوبه وبقعته.
وكذلك من عدم الماء أو ضرّه استعماله فله العدول إلى التيمم بجميع ما تصاعد على وجه الأرض، سواء التراب الذي له غبار أو غيره، كما هو صريح هذا الحديث مع قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} فإن الصعيد: كل ما تصاعد على وجه الأرض من جميع أجزائها.
ويدلّ على أن التيمم على الوجه واليدين ينوب مناب طهارة الماء، ويفعل به من الصلاة والطواف ومس الصحف وغير ذلك ما يفعل بطهارة الماء: والشارع أناب التراب مناب الماء عند تعذر استعماله. فيدل ذلك على أنه إذا تطهر بالتراب ولم ينتقض وضوءه لم يبطل تيممه بخروج الوقت ولا بدخوله، وأنه إذا نوى التيمم للنفل استباح الفرض كطهارة الماء، وأن حكمه حكم الماء في كل الأحكام في حالة التعذر.
الثالث: قوله: "وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي" وذلك لكرامته على ربه، وكرامة أمته وفضلهم، وكمال إخلاصهم، فأحلها لهم، ولم ينقص من أجر جهادهم شيئاً. وحصل بها لهذه الأمة من سعة الأرزاق، وكثرة الخيرات، والاستعانة على أمور الدين والدنيا شيءٌ لا يمكن عدّه. ولهذا قال  : "وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي" أما من قبلنا من الأمم، فإن جهادهم قليل بالنسبة لهذه الأمة، وهم دون هذه الأمة بقوة الإيمان والإخلاص. فمن رحمته بهم أنه منعهم من الغنائم؛ لئلا يخلّ بإخلاصهم. والله أعلم.
الرابعة: قوله: "وأعطيت الشفاعة" وهي الشفاعة العظمى التي يعتذر عنها كبار الرسل، وينتدب لها خاتمهم محمد  . فيشفّعه الله في الخلق. ويحصل له المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، وأهل السماوات والأرض. وتنال أمته من هذه الشفاعة الحظ الأوفر، والنصيب الأكمل. ويشفع لهم شفاعة خاصة، فيشفعه الله تعالى. وقد قال  : "لكل نبي دعوة تعجَّلَها. وقد خَبَّأتُ دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة – إن شاء الله – من مات لا يشرك بالله شيئاً"، وقال: "أسعد الناس بشفاعتي: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه".
الخامسة: قوله: "وكان النبي" أي: جنس الأنبياء "يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" وذلك لكمال شريعته وعمومها وسعتها، واشتمالها على الصلاح المطلق، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. ولا يتم الصلاح إلا بها. وقد أسّست للبشر أصولاً عظيمة، متى اعتبروها صلحت لهم دنياهم كما صلح لهم دينهم.







الحديث السابع والعشرون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام"
متفق عليه.



وصيته صلى الله عليه وسلم وخطابه لواحد من أمته خطاب للأمة كلها، ما لم يدل دليل على الخصوصية.
فهذه الوصايا الثلاث، من آكد نوافل الصلاة والصيام.
أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر: فإنه ورد أنه يعدل صيام السنة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها. وصيام الثلاث من كل شهر يعدل صيام الشهر كله. والشريعة مبناها على اليسر والسهولة. وجانب الفضل فيها غالب. وهذا العمل يسير على من يسره الله عليه، لا يشق على الإنسان ولا يمنعه القيام بشيء من مهماته، ومن ذلك ففيه هذا الفضل العظيم؛ لأن العمل كلما كان أطوع للرب وأنفع للعبد، كان أفضل مما ليس كذلك. وقد ثبت الحثّ على تخصيص سنة من شوال، وصيام يوم عرفة، والتاسع والعاشر من المحرم، والاثنين والخميس.
وأما صلاة الضحى: فإنه قد تكاثرت الأحاديث الصحيحة في فضلها، واختلف العلماء في استحباب مداومتها، أو أن يغب بها الإنسان. والصحيح: أنه تستحب المداومة عليها لهذا الحديث وغيره إلا لمن له عادة من صلاة الليل، فإذا تركها أحياناً فلا بأس. وقد أخبر رسول الله  "إنه يصبح على كل آدمي كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة. ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" قال العلماء: أقل صلاة الضحى ركعتان، وأكثرها ثمان، ووقتها من ارتفاع الشمس قِيْدَ رمح إلى قبيل الزوال.
وأما الوتر: فإنه سنة مؤكدة، حثّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وداوم عليه حضراً وسفراً.
وأقله: ركعة واحدة، وإن شاءَ بثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشر ركعة. وله أن يسردها بسلام واحد، وأن يسلم من كل ركعتين.
ووقت الوتر من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر والأفضل آخر الليل لمن طمع أن يقوم آخره، وإلا أوترأوله كما في هذا الحديث.


الكلم ونوافعها
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:49 pm

لحديث الثامن والعشرون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الدين يُسْر، ولن يَشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه، فسَدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغُدْوة والروحة، وشيء من الدُّلَجة"
متفق عليه.
وفي لفظ "والقصدَ القصدَ تَبْلُغوا".



ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة. فقد أُسّس  في أوله هذا الأصل الكبير. فقال: "إن الدين يسر" أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه. فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. وبفواتها يفوت الصلاح كله. وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه، ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة. تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة. وفرائضه أسهل شيء.
أما الصلوات الخمس: فإنها تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات في أوقات مناسبة لها. وتمم اللطيف الخبير سهولتها بإيجاب الجماعة والاجتماع لها؛ فإن الاجتماع في العبادات من المنشطات والمسهلات لها ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان، وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها، ويحمد الله على فرضه لها على العباد؛ إذ لا غنى لهم عنها.
وأما الزكاة: فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي. وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم، وتنمية لأموالهم، وأخلاقهم، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم، وتطهيراً لهم من السيئات، ومواساة لمحاويجهم، وقياماً لمصالحهم الكلية. وهي مع ذلك جزءٌ يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق.
وأما الصيام: فإن المفروض شهر واحد من كل عام، يجتمع فيه المسلمون كلهم، فيتركن فيه شهواتهم الأصلية – من طعام وشراب ونكاح – في النهار – ويعوضهم الله على ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم، وزيادة كمالهم، وأجره العظيم، وبره العميم، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير، ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها، وترك المنكرات.
وأما الحج: فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع، وفي العمر مرة واحدة. وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده. وقد فصلنا مصالح الحج ومنافعه في محلّ آخر. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي: دينية ودنيوية.
ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده. فهي في نفسها ميسرة. قال تعالى {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما، رتب على ذلك من التخفيفات، وسقوط بعض الواجبات، أو صفاتها وهيئتها ما هو معروف.
ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد  رأى ذلك غير شاق عليه، ولا مانع له عن مصالح دنياه، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها: حقّ الله، وحقّ النفس، وحقّ الأهل والأصحاب، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة، وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي  ، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات: فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: "ولن يَشادَ الدينَ أحد إلا غلبه" فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو، ولم يقتصد: غلبه الدين، واستحسر ورجع القهقرى. ولهذا أمر  بالقصد، وحثّ عليه. فقال: "والقصد القصد تبلغوا".
ثم وصى  بالتسديد والمقاربة، وتقوية النفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس فالتسديد: أن يقول الإنسان القول السديد، ويعمل العمل السديد، ويسلك الطريق الرشيد، وهو الإصابة في أقواله وأفعاله من كل وجه. فإن لم يدرك السداد من كل وجه فليتق الله ما استطاع، وليقارب الغرض. فمن لم يدرك الصواب كله فليكتف بالمقاربة. ومن عجز عن العمل كله فليعمل منه ما يستطيعه.
ويؤخذ من هذا أصل نافع دلّ عليه أيضاً قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقوله  : "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم" والمسائل المبنية على هذا الأصل لا تنحصر. وفي حديث آخر "يسِّروا، ولا تعسروا. وبَشِّروا ولا تنفروا".
ثم ختم الحديث بوصية خفيفة على النفوس، وهي في غاية النفع. فقال: "واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدُّلجة" وهذه الأوقات الثلاثة كما أنها السبب الوحيد لقطع المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسِّية، مع راحة المسافر، وراحة راحلته، وصوله براحة وسهولة، فهي السبب الوحيد لقطع السفر الأخروي، وسلوك الصراط المستقيم، والسير إلى الله سيراً جميلاً. فمتى أخذ العامل نفسه، وشغلها بالخير والأعمال الصالحة المناسبة لوقته – أوّل نهاره وآخر نهاره وشيئاً من ليله، وخصوصاً آخر الليل – حصل له من الخير ومن الباقيات الصالحات أكمل حظ، وأوفر نصيب. ونال السعادة والفوز والفلاح وتم له النجاح في راحة وطمأنينة، مع حصول مقاصده الدنيوية، وأغراضه النفسية. وهذا من أكبر الأدلة على رحمة الله بعباده بهذا الدين الذي هو مادة السعادة الأبدية؛ إذ نصبه لعباده، وأوضحه على ألسنة رسله، وجعله ميسراً مسهلاً، وأعان عليه من كل وجه. ولطف بالعاملين، وحفظهم من القواطع والعوائق.
فعلمت بهذا: أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد:
القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم.
القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها.
القاعدة الثالثة: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
القاعدة الرابعة: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.
القاعدة الخامس: الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء.
فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع




الحديث التاسع والعشرون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حق المسلم على المسلم ست: قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلّم عليه. وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشَمِّته. وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتْبَعه"
رواه مسلم.



هذه الحقوق الستة من قام بها في حقّ المسلمين كان قيامه بغيرها أولى. وحصل له أداء هذه الواجبات والحقوق التي فيها الخير الكثير والأجر العظيم من الله.
الأولى: "إذا لقيته فسلّم عليه" فإن السلام سبب للمحبة التي توجب الإيمان الذي يوجب دخول الجنة، كما قال  : "والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا. ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" والسلام من محاسن الإسلام؛ فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من الشرور، وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير، ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية المناسبة ما يوجب التآلف والمحبة، ويزيل الوحشة والتقاطع.
فالسلام حقّ للمسلم. وعلى المسلَّم عليه ردّ التحية بمثلها أو أحسن منها، وخير الناس من بدأهم بالسلام.
الثانية: "إذا دعاك فأجبه" أي: دعاك لدعوة طعام وشراب فاجبر خاطر أخيك الذي أدلى إليك وأكرمك بالدعوة، وأجبه لذلك إلا أن يكون لك عذر.
الثالثة: قوله: "وإذا استنصحك فانصح له" أي: إذا استشارك في عمل من الأعمال: هل يعمله أم لا؟ فانصح له بما تحبه لنفسك. فإن كان العمل نافعاً من كل وجه فحثه على فعله، وإن كان مضراً فحذره منه وإن احتوى على نفع وضرر فاشرح له ذلك، ووازن بين المصالح والمفاسد. وكذلك إذا شاورك على معاملة أحد من الناس أو تزويجه أو التزوج منه فابذل له محض نصيحتك، وأعمل له من الرأي ما تعمله لنفس، وإياك أن تغشه في شيء من ذلك. فمن عش المسلمين فليس منهم، وقد ترك واجب النصيحة.
وهذه النصيحة واجبة مطلقاً، ولكنها تتأكد إذا استنصحك وطلب منك الرأي النافع. ولهذا قيده في هذه الحالة التي تتأكد. وقد تقدم شرح الحديث "الدين النصيحة" بما يغني عن إعادة الكلام.
الرابعة: قوله: "وإذا عطس فحمد الله فشمته" وذلك أن العطاس نعمة من الله؛ لخروج هذه الريح المحتقنة في أجزاء بدن الإنسان، يسر الله لها منفذاً تخرج منه فيستريح العاطس. فشرع له أن يحمد الله على هذه النعمة. وشرع لأخيه أن يقول له: "يرحمك الله" وأمره أن يجيبه بقوله: "يهديكم الله ويصلح بالكم" فمن لم يحمد الله لم يستحق التشميت، ولا يلومن إلا نفسه. فهو الذي فوّت على نفسه النعمتين: نعمة الحمد لله، ونعمة دعاء أخيه له المرتب على الحمد.
الخامسة: قوله "وإذا مرض فعده" عيادة المريض من حقوق المسلم، وخصوصاً من له حق عليك متأكد، كالقريب والصاحب ونحوهما. وهي من أفضل الأعمال الصالحة. ومن عاد أخاه المسلم لم يزل يخوض الرحمة، فإذا جلس عنده غمرت الرحمة. ومن عاده أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي. ومن عاده آخر النهار صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وينبغي للعائد أن يدعو له بالشفاء، وينفس له، ويشرح خاطره بالبشارة بالعافية، ويذكره التوبة والإنابة إلى الله والوصية النافعة. ولا يطيل عنده الجلوس، بل بمقدار العيادة، إلا أن يؤثر المريض كثرة تردده وكثرة جلوسه عنده، فلكل مقام مقال.
السادسة: قوله: "وإذا مات فاتْبعه" فإن من تبع جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط من الأجر. فإن تبعها حتى تدفن فله قيراطان. واتباع الجنازة فيه حق لله، وحق للميت، وحق لأقاربه الأحياء.







الحديث الثلاثون
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"
رواه البخاري.



هذا من أكبر مِنن الله على عباده المؤمنين: أن أعمالهم المستمرة المعتادة إذا قطعهم عنها مرض أو سفر كتبت لهم كلها كاملة؛ لأن الله يعلم منهم أنه لولا ذلك المانع لفعلوها، فيعطيهم تعالى بنياتهم مثل أجور العاملين مع أجر المرض الخاص، ومع ما يحصل به من القيام بوظيفة الصبر، أو ما هو أكمل من ذلك من الرضى والشكر، ومن الخضوع لله والانكسار له. ومع ما يفعله المسافر من أعمال ربما لا يفعلها في الحضر: من تعليم، أو نصيحة، أو إرشاد إلى مصلحة دينية أو دنيوية وخصوصاً في الأسفار الخيرية، كالجهاد، والحج والعمرة، ونحوها.
ويدخل في هذا الحديث: أن من فعل العبادة على وجه ناقص وهو يعجز عن فعلها على الوجه الأكمل، فإن الله يكمل له بنيته ما كان يفعله لو قدر عليه؛ فإن العجز عن مكملات العبادات نوع مرض. والله أعلم.
ومن كان من نيته عمل خير، ولكنه اشتغل بعمل آخر أفضل منه، ولا يمكنه الجمع بين الأمرين: فهو أولى أن يكتب له ذلك العمل الذي منعه منه عمل أفضل منه، بل لو اشتغل بنظيره. وفضل الله تعالى عظيم.




الحديث الحادي والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أسرعوا بالجنازة. فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه. وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم"
متفق عليه.



هذا الحديث محتوٍ على مسائل أصولية وفروعية.
فقوله  : "أسرعوا بالجنازة" يشمل الإسراع بتغسيلها وتكفينها وحملها ودفنها، وجميع متعلقات التجهيز. ولهذا كانت هذه الأمور من فروض الكفاية. ويستثنى من هذا الإسراع إذا كان التأخير فيه مصلحة راجحة، كأن يموت بغتة، فيتعين تأخيره حتى يتحقق موته: لئلا يكون قد أصابته سكتة. وينبغي أيضاً – تأخيره لكثرة الجمع، أو لحضور من له حق عليه من قريب ونحوه. وقد علل ذلك بمنفعة الميت لتقديمه لما هو خير له من النعيم، أو لمصلحة الحي بالسرعة في الإبعاد عن الشر.
وإذا كان هذا مأموراً به في أمور تجهيزه، فمن باب أولى الإسراع في إبراء ذمته من ديون وحقوق عليه، فإنه إلى ذلك أحوج.
وفيه: الحث على الاهتمام بشأن أخيك المسلم حياً وميتاً، وبالإسراع إلى ما فيه خير له في دينه ودنياه. كما أن فيه: الحق على البعد عن أسباب الشر، ومباعدة المجرمين، حتى في الحالة التي يبتلى الإنسان فيها بمباشرته.
وفي هذا الحديث: إثبات نعيم البرزخ(1) وعذابه. وقد تواترت بذلك الأحاديث عن النبي ، وأن مبتدأ ذلك وضعه في قبره إذا تم دفنه، ولهذا يشرع في هذه الحال الوقوف على قبره والدعاء له، والاستغفار، وسؤال الله له الثبات.
وفي هذا أيضاً: التنبيه على أسباب نعيم البرزخ وعذابه، وأن أسباب النعيم الصلاح؛ لقوله: "فإن كانت صالح" والصلاح كلمة جامعة تحتوي على تصديق الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله. فهو تصديق الخبر، وامتثال الأمر، واجتناب النهي، وأن العذاب سببه الإخلال بالصلاح: إما لشك في الدين، أو اجتراء على المحارم، أو لترك شيء من الواجبات والفرائض. وجميع الأسباب المفصلة في الأحاديث والآثار ترجع إلى ذلك. ولذلك قال تعالى: {لا يَصْلَاهَا إِلا الأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}(2) كذب الخبر، وتولى عن الأمر.








2 3مفقزد اسف
هكر بغداد




الحديث الثالث والثلاثون
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ومن يستعفف يُعفّه الله. ومن يستغن يُغنه الله. ومن يَتَصَبَّر يُصّبِّره الله. وما أعطِيَ أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر"
متفق عليه.



هذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة.
إحداها: قوله: "ومن يستعفف يعفه الله"
والثانية: قوله: "ومن يستغن يغنه الله"
وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقاً به دون المخلوقين، فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبداً لله حقاً حُرّاً من رق المخلوقين. وذلك بأن يجاهد نفسه عن أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم. فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله. ولهذا قال  لعمر:
"ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه. ومالا فلا تتبعه نفسَك" فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففاً وترفعاً عن مِنن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.
وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله، والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه. وهذا هو المقصود. والأول وسيلة إلى هذا. فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم: أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه. والله تعالى عند حسن ظن عبده به إن ظن خيراً فله: وإن ظن غيره فله. وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه. فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس.
ومن دعاء النبي  : "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى" فجمع الخير كله في هذا الدعاء. فالهدى: هو العلم النافع. والتقى: العمل الصالح، وترك المحرمات كلها. هذا صلاح الدين.
وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله. ومن كان غنياً بالله فهو الغني حقاً، وإن قلت حواصله. فليس الغني عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى القلب. وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله.
والثالثة قوله: "ومن يتصبر يصبره الله".
ثم ذكر في الجملة الرابعة: أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهو أفضل العطاء وأوسعه وأعظمه، إعانة على الأمور. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}(1) أي: على أموركم كلها.
والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها. فلهذا قال: "ومن يتصبر" أي: يجاهد نفسه على الصبر "يصبره الله" ويعينه وإنما كان الصبر أعظم العطايا، لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر. فإنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله، حتى يقوم بها ويؤديها. وإلى صبر عن معصية الله حتى يتركها لله وإلى صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخطها. بل إلى صبر على نعم الله ومحبوبات النفس، فلا يدع النفس تمرح وتفرح الفرح المذموم، بل يشتغل بشكر الله، فهو في كل أحواله يحتاج إلى الصبر. وبالصبر ينال الفلاح. ولهذا ذكر الله أهل الجنة فقال: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(1) وكذلك قوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}(2) فهم نالوا الجنة بنعيمها، وأدركوا المنازل العالية بالصبر. ولكن العبد يسأله الله العافية من الابتلاء الذي لا يدري ما عاقبته، ثم إذا ورد عليه فوظيفته الصبر. فالعافية هي المطلوبة بالأصالة في أمور الابتلاء والامتحان. والصبر يؤمر به عند وجود أسبابه متعلقاته. والله هو المعين.
وقد وعد الله الصابرين في كتابه وعلى لسان رسوله أموراً عالية جليلة. وعدهم بالإعانة في كل أمورهم، وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد، وأنه يحبهم ويثبت قلوبهم وأقدامهم، ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة، ويسهل لهم الطاعات، ويحفظهم من المخالفات، ويتفضل عليهم بالصلوات والرحمة والهداية عند المصيبات. والله يرفعهم إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة. وعدهم النصر، وأن ييسرهم لليسرى ويجنبهم العُسرى. ووعدهم بالسعادة والفلاح والنجاح، وأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم، وأحسن، يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضاً عاجلاً يقابل أضعاف أضعاف ما وقع عليهم من كريهة ومصيبة. وهو في ابتدائه صعب شديد. وفي انتهائه سهل حميد العواقب كما قيل:
والصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:53 pm

الحديث الرابع والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"
رواه مسلم.



هذا الحديث احتوى على فضل الصدقة، والعفو والتواضع، وبيان ثمراتها العاجلة والآجلة، وأن كل ما يتوهمه المتوهم من نقص الصدقة للمال، ومنافاة العفو للعز، والتواضع للرفعة. وهم غالط، وظن كاذب.
فالصدقة لا تنقص المال؛ لأنه لو فرض أنه نقص من جهة، فقد زاد من جهات أُخر؛ فإن الصدقة تبارك المال، وتدفع عنه الآفات وتنميه، وتفتح للمتصدق من أبواب الرزق وأسباب الزيادة أموراً ما تفتح على غيره. فهل يقابل ذلك النقص بعض هذه الثمرات الجليلة؟
فالصدقة لله التي في محلها لا تنفد المال قطعاً، ولا تنقصه بنص النبي  ، وبالمشاهدات والتجربات المعلومة. هذا كله سوى ما لصاحبها عند الله: من الثواب الجزيل، والخير والرفعة.
وأما العفو عن جنايات المسيئين بأقوالهم وأفعالهم: فلا يتوهم منه الذل، بل هذا عين العز، فإن العز هو الرفعة عند الله وعند خلقه، مع القدرة على قهر الخصوم والأعداء.
ومعلوم ما يحصل للعافي من الخير والثناء عند الخلق وانقلاب العدو صديقاً، وانقلاب الناس مع العافي، ونصرتهم له بالقول والفعل على خصمه، ومعاملة الله له من جنس عمله، فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه. وكذلك المتواضع لله ولعباده ويرفعه الله درجات؛ فإن الله ذكر الرفعة في قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(1) فمن أجلّ ثمرات العلم والإيمان: التواضع؛ فإنه الانقياد الكامل للحق، والخضوع لأمر الله ورسوله؛ امتثالاً للأمر، واجتناباً للنهي، مع التواضع لعباد الله، وخفض الجناح لهم، ومراعاة الصغير والكبير، والشريف والوضيع. وضد ذلك التكبر؛ فهو غمط الحق، واحتقار الناس.
وهذه الثلاث المذكورات في هذا الحديث: مقدمات صفات المحسنين. فهذا محسن في ماله، ودفع حاجة المحتاجين. وهذا محسن بالعفو عن جنايات المسيئين. وهذا محسن إليهم بحلمه وتواضعه، وحسن خلقه مع الناس أجمعين. وهؤلاء قد وسعوا الناس بأخلاقهم وإحسانهم ورفعهم الله فصار لهم المحل الأشرف بين العباد، مع ما يدخر الله لهم من الثواب.
وفي قوله  : "وما تواضع أحد لله" تنبيه على حسن القصد والإخلاص لله في تواضعه؛ لأن كثيراً من الناس قد يظهر التواضع للأغنياء ليصيب من دنياهم، أو للرؤساء لينال بسببهم مطلوبه. وقد يظهر التواضع رياء وسمعة. وكل هذه أغراض فاسدة. لا ينفع العبد إلا التواضع لله تقرباً إليه. وطلباً لثوابه، وإحساناً إلى الخلق؛ فكمال الإحسان وروحه الإخلاص لله.



الحديث الخامس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله تعالى: إلا الصوم. فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولَخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والصوم جُنَّة. وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم"
متفق عليه.



ما أعظم هذا الحديث؛ فإنه ذكر الأعمال عموماً، ثم الصيام خصوصاً وذكر فضله وخواصه، وثوابه العاجل والآجل، وبيان حكمته، والمقصود منه، وما ينبغي فيه من الآداب الفاضلة. كلها احتوى عليها هذا الحديث.
فبين هذا الأصل الجامع، وأن جميع الأعمال الصالحة – من أقوال وأفعال، ظاهرة أو باطنة، سواء تعلقت بحق الله، أو بحقوق العباد – مضاعفة من عشر إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وهذا من أعظم ما يدل على سعة فضل الله، وإحسانه على عباده المؤمنين؛ إذ جعل جناياتهم ومخالفتهم الواحدة بجزاء واحد، ومغفرة الله تعالى فوق ذلك.
وأما الحسنة: فأقل التضيف أو الواحدة بعشر. وقد تزيد على ذلك بأسباب.
منها: قوة إيمان العامل، وكمال إخلاصه. فكلما قوي الإيمان والإخلاص تضاعف ثواب العمل.
ومنها: أن يكون للعمل موقع كبير، كالنفقة في الجهاد والعلم، والمشاريع الدينية العامة، وكالعمل الذي قوي بحسنه وقوته ودفعه المعارضات، كما ذكره  في قصة أصحاب الغار، وقصة البَغِيِّ التي سقت الكلب، فشكر الله لها وغفر لها. ومثل العمل الذي يثمر أعمالاً أُخر، ويقتدي به غيره، أو يشاركه فيه مشارك، وكدفع الضرورات العظيمة، وحصول المبرات الكبيرة، وكالمضاعفة لفضل الزمان أو المكان، أو العامل عند الله.
فهذه المضاعفات كلها شاملة لكل عمل.
واستثنى في هذا الحديث الصيام، وأضافه إليه، وأنه الذي يجزى به بمحض فضله وكرمه، من غير مقابلة للعمل بالتضعيف المذكور الذي تشترك فيه الأعمال. وهذا شيء لا يمكن التعبير عنه، بل يجازيهم بما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وفي الحديث كالتنبيه على حكمة هذا التخصيص، وأن الصائم لما ترك محبوبات النفس التي طبعت على محبتها، وتقديمها على غيرها، وأنها من الأمور الضرورية، فقدم الصائم عليها محبة ربه، فتركها لله في حالة لا يطلع عليها إلا الله، وصارت محبته لله مقدمة وقاهرة لكل محبة نفسية، وطلب رضاه وثوابه مقدماً على تحصيل الأغراض النفسية. فلهذا اختصه الله لنفسه، وجعل ثواب الصائم عنده. فما ظنك بأجر وجزاء تكفل به الرحمن الرحيم الكريم المنان، الذي عمت مواهبه جميع الموجودات، وخصّ أولياءه منها بالحظ الأوفر، والنصيب الأكمل، وقدر لهم من الأسباب والألطاف التي ينالون بها ما عنده على أمور لا تخطر له بالبال. ولا تدور في الخيال؟ فما ظنك أن يفعل الله بهؤلاء الصائمين المخلصين؟
وهنا يقف القلم، ويسبح قلب الصائم فرحاً وطرباً بعمل اختصه الله لنفسه، وجعل جزاءه من فضله المحض، وإحسانه الصرف. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ودلّ الحديث على أن الصيام الكامل هو الذي يدع العبد فيه شيئين: المفطرات الحسية، من طعام وشراب ونكاح وتوابعها. والمنقصات العملية، فلا يرفث ولا يصخب، ولا يعمل عملاً محرماً، ولا يتكلم بكلام محرم. بل يجتنب جميع المعاصي، وجميع المخاصمات والمنازعات المحدثة للشحناء. ولهذا قال: "فلا يرفث" أي: لا يتكلم بكلام قبيح "ولا يصخب" بالكلام المحدث للفتن والمخاصمات. كما قال في الحديث الآخر: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
فمن حقق الأمرين: ترك المفطرات، وترك المنهيات، تم له أجر الصائمين. ومن لم يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ثم أرشد الصائم إذا عرض له أحد يريد مخاصمته ومشاتمته أن يقول له بلسانه: "إني صائم".
وفائدة ذلك: أن يريد كأنه يقول: اعلم أنه ليس بي عجز عن مقابلتك على ما تقول، ولكني صائم، أحترم صيامي وأراعي كماله، وأمر الله ورسوله. واعلم أن الصيام يدعوني إلى ترك المقابلة، ويحثُّني على الصبر. فما عملته أنا خير وأعلى مما ملته معي أيها المخاصم.
وفيه: العناية بالأعمال كلها من صيام وغيره، ومراعاة تكميلها، والبعد عن جميع المنقصات لها، وتذكر مقتضيات العمل، وما يوجبه على العامل وقت حصول الأسباب الجارحة للعمل.
وقوله: "الصيام جُنَّة" أي: وقاية يتقي بها العبد الذنوب في الدنيا ويتمرن به على الخير، ووقاية من العذاب.
فهذا من أعظم حكم الشارع من فوائد الصيام، وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1) فكون الصوم جنة، وسبب لحصول التقوى: هو مجموع الحكم التي فصلت في حكمة الصيام وفوائده فإنه يمنع من المحرمات أو يخففها، ويحث على كثير من الطاعات.
وقوله  : "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه".
هذا ثوابان: عاجل، وآجل.
فالعاجل: مشاهد إذا أفطر الصائم فرح بنعمة الله عليه بتكميل الصيام. وفرح بنيل شهواته التي منع منها في النهار.
والآجل: فرحه عند لقاء ربه برضوانه وكرامته. وهذا الفرح المعجل نموذج ذلك الفرح المؤجل، وأن الله سيجمعهما للصائم.
وفيه: الإشارة إلى أن الصائم إذا قارب فطره، وحصلت له هذه الفرحة، فإنها تقابل ما مر عليها في نهاره من مشقة ترك الشهوات. فهي من باب التنشيط، وإنهاض الهمم على الخير.
وقوله: "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
الخلوف: هو الأثر الذي يكون في الفم من رائحة الجوف عند خلوه من الطعام وتصاعد الأبخرة. فهو وإن كان كريهاً للنفوس، فلا تحزن أيها الصائم؛ فإنه أطيب عند الله من ريح المسك، فإنه متأثر عن عبادته والتقرب إليه. وكل ما تأثر عن العبادات من المشقات والكريهات فهو محبوب لله. ومحبوب الله عند المؤمن مقدم على كل شيء.






الحديث السادس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأكره مساءته. ولا بد له منه"
رواه البخاري.



هذا حديث جليل، أشرف حديث في أوصاف الأولياء، وفضلهم ومقاماتهم.
فأخبر أن معاداة أوليائه معاداة له ومحاربة له. ومن كان متصدياً لعداوة الرب ومحاربة مالك الملك فهو مخذول. ومن تكفل الله بالذَّبِّ عنه فهو منصور. وذلك لكمال موافقة أولياء الله لله في محابه؛ فأحبهم وقام بكفايتهم، وكفاهم ما أهمهم.
ثم ذكر صفة الأولياء الصفة الكاملة، وأن أولياء الله هم الذين تقربوا إلى الله بأداء الفرائض أولاً: من صلاة وصيام وزكاة وحج وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجهاد، وقيام بحقوقه وحقوق عباده الواجبة.
ثم انتقلوا من هذه الدرجة إلى التقرب إليه بالنوافل، فإن كل جنس من العبادات الواجبة مشروع من جنسه نوافل فيها فضائل عظيمة تكمل الفرائض، وتكمل ثوابها.
فأولياء الله قاموا بالفرائض والنوافل، فتولاهم وأحبهم وسهل لهم كل طريق يوصلهم إلى رضاه. ووفقهم وسددهم في جميع حركاتهم، فإن سمعوا سمعوا بالله. وإن أبصروا فلله. وإن بطشوا أو مشوا ففي طاعة الله.
ومع تسديده لهم في حركاتهم جعلهم مجابي الدعوة: إن سألوه أعطاهم مصالح دينهم ودنياهم، وإن استعاذوه من الشرور أعاذهم.
ومع ذلك لطف بهم في كل أحوالهم، ولولا أنه قضى على عباده بالموت لسلم منه أولياءه؛ لأنهم يكرهونه لمشقته وعظمته. والله يكره مساءتهم، ولكن لما كان القضاء نافذاً كان لا بد لهم منه.
فبين في هذا الحديث: صفة الأولياء، وفضائلهم المتنوعة، وحصول محبة الله لهم التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، وأنه معهم وناصرهم، ومؤيدهم ومسددهم، ومجيب دعواتهم.
ويدل هذا الحديث على: إثبات محبة الله، وتفاوتها لأوليائه بحسب مقاماتهم.
ووصف النبي  لأولياء الله بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، مطابق لوصف الله لهم بالإيمان والتقوى في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}(1)
فكل من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً؛ لأن الإيمان يشمل العقائد، وأعمال القلوب والجوارح. والتقوى ترك جميع المحرمات.
ويدل على أصل عظيم: وهو أن الفرائض مقدمة على النوافل، وأحب إلى الله وأكثر أجراً وثواباً. لقوله: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضت عليه"، وأنه عند التزاحم يتعين تقديم الفروض على النوافل.









الحديث السابع والثلاثون
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا. فإن صدقا وبيَّنا: بورك لهما في بيعهما. وإن كذبا وكتما: محقت بركة بيعهما"
متفق عليه.



هذا الحديث أصل في بيان المعاملات النافعة، والمعاملات الضارة وأن الفاصل بين النوعين: الصدق والبيان.
فمن صدق في معاملته، وبين جميع ما تتوقف عليه المعاملة من الأوصاف المقصودة، ومن العيوب والنقص. فهذه معاملة نافعة في العاجل بامتثال أمر الله ورسوله، والسلامة من الإثم، وبنزول البركة في معاملته. وفي الآجلة بحصول الثواب، والسلامة من العقاب.
ومن كذب وكتم العيوب، وما في العقود عليه من الصفات فهو مع إثمه معاملته ممحوقة البركة. متى نزعت البركة من المعاملة خسر صاحبها دنياه وأُخراه.
ويستدل بهذا الأصل على تحريم التدليس، وإخفاء العيوب، وتحريم الغش، والبخس في الموازين والمكاييل والذرع وغيرها؛ فإنها من الكذب والكتمان. وكذلك تحريم النجش(1)، والخداع في المعاملات وتلقي الجلب ليبيعهم، أو يشتري منهم.
ويدخل فيه: الكذب في مقدار الثمن والمثمن، وفي وصف المعقود عليه، وغير ذلك.
وضابط ذلك: أن كل شيء تكره أن يعاملك فيه أخوك المسلم أو غيره ولا يخبرك به، فإنه من باب الكذب والإخفاء والغش.
ويدخل في هذا: البيع بأنواعه، والإجارات، والمشاركات وجميع المعاوضات، وآجالها ووثائقها. فكلها يتعين على العبد فيها، الصدق والبيان، ولا يحل له الكذب والكتمان.
وفي هذا الحديث: إثبات خيار المجلس في البيع، وأن لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الإمضاء أو الفسخ، ما داما في محل التبايع. فإذا تفرّقا ثبت البيع ووجب، وليس لواحد منهما بعد ذلك الخيار إلا بسبب يوجب الفسخ، كخيار شرط، أو عيب يجده قد أخفى عليه، أو تدليس أو تعذر معرفة ثمن، أو مثمن.
والحكمة في إثبات خيار المجلس: أن البيع يقع كثيراً جداً، وكثيراً ما يندم الإنسان على بيعه أو شرائه؛ فجعل له الشارع الخيار؛ كي يتروى وينظر حاله: هل يمضي، أو يفسخ؟ والله أعلم.







الحديث الثامن والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغَرر"
رواه مسلم.



وهذا كلام جامع لكل غَرر. والمراد بالغَرر: المخاطرة والجهالة. وذلك داخل في الميسر، فإن الميسر كما يدخل في المغالبات والرهان – إلا رهان سباق الخيل والإبل والسهام – فكذلك يدخل في أمور المعاملات.
فكل بيع فيه خطر: هل يحصل المبيع، أو لا يحصل؟ – كبيع الآبق والشارد والمغصوب من غير غاصبه، أو غير القادر على أخذه، وكبيع ما في ذمم الناس – وخصوصاً المماطلين والمعسرين – فإنه داخل في الغرر.
وكذلك كل بيع فيه جهالة ظاهرة يتفاوت فيها المقصود؛ فإنها داخلة في بيع الغرر، كبيعه ما في بيته من المتاع، أو ما في دكانه، أو ما في هذا الموضع، وهو لا يدري به ولا يعلمه، أو بيع الحصاة التي هي مثال من أمثلة الغرر، كأن يقول: ارم هذه الحصاة، فعلى أيّ متاع وقعت، فهو عليك بكذا، أو ارمها في الأرض فما بلغته من المدى، فهو لك بكذا، أو بيع المنابذة أو الملامسة، أو بيع ما في بطون الأنعام، وما أشبه ذلك: فكل ذلك غرر واضح.
ومن حكمة الشارع: تحريم هذا النوع؛ لما فيه من المخاطرات، وإحداث العداوات التي قد يغبن فيها أحدهما الآخر غبناً فاحشاً مضراً.
ولهذا اشترط العلماء للبيع: العلم بالمبيع، والعلم بالثمن.
واشترطوا أيضاً: أن يكون العاقد جائز التصرف، بأن يكون بالغاً عاقلاً رشيداً؛ لأن العقد مع الصغير أو غير الرشيد لا بد أن يحصل به غبن مضر. وذلك من الغرر.
وكذلك اشترطوا: العلم بالأجل، إذا كان الثمن أو بعضه، أو المبيع في السلم مؤجلاً؛ لأن جهالة الأجل تصيِّر العقد غرراً.
وكما يدخل في النهي عن بيع الغرر، الغررُ الذي يتفقان عليه. فمن باب أولى أن يدخل فيه التغرير، وتدليس أحدهما على الآخر شيئاً من أمور المعاملة: من معقود به، أو عليه، أو شيء من صفاته.
والغش كله داخل في التغرير، وأفراد الغش وتفاصيله، لا يمكن ضبطها. وهي معروفة بين الناس.
وحاصل بيع الغرر يرجع إلى بيع المعدوم، كحبَل الحبَلة، والسنين، أو بيع المعجوز عنه، كالآبق ونحوه، أو بيع المجهول المطلق في ذاته، أو جنسه، أو صفاته.
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:55 pm

الحديث التاسع والثلاثون
عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً. والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً"
رواه أهل السنن إلا النسائي.



جمع في هذا الحديث الشريف بين أنواع الصلح والشروط – صحيحها وفاسدها – بكلام يشمل من أنواع العلم وأفراده ما لا يحصى، بحد واضح بيِّن.
فأخبر أن الأصل في الصلح: أنه جائز لا بأس به، إلا إذا حرم الحلال، أو أحل الحرام. وهذا كلم محيط، يدخل فيه جميع أقسام الصلح. والصلح خير؛ لما فيه من حسم النزاع، وسلامة القلوب، وبراءة الذمم.
فيدخل فيه: الصلح في الأمور في الإقرار، بأن يقرَّ له بدين، أو عين، أو حق، فيصالحه عنه ببعضه أو بغيره.
وصلح الإنكار، بأن يدعي عليه حقاً من دين، أو عين، فينكر. ثم يتفقان على المصالحة على هذا بعين أو دين، أو منفعة أو إبراء، أو غيره: فكل ذلك جائز.
وكذلك الصلح عن الحقوق المجهولة، كأن يكون بين اثنين معاملة طويلة، اشتبه فيها ثبوتُ الحق على أحدهما أو عليهما، أو اشتبه مقداره، فيتصالحان على ما يتفقان عليه، ويتحريان العدل.
وتمام ذلك: أن يحل كل منهما الآخر، أو يكون بين اثنين مشاركة في ميراث أو وقف، أو وصية أو مال آخر: من ديون، أو أعيان، ثم يتصالحان عن ذلك بما يريانه أقرب إلى العدل والصواب.
وكذلك يدخل في ذلك: المصالحة بين الزوجين في حق من حقوق الزوجية: من نفقة أو كسوة أو مسكن أو غيرها، ماضية أو حاضرة، وإن اقتضت الحال أن يغض أحدهما عن بعض حقه: لاستيفاء بقيته، أو لبقاء الزوجية، أو لزوال الفضل، أو لغير ذلك من المقاصد، فكل ذلك حسن. كما قال تعالى في حقهما: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}(1).
وكذلك الصلح عن القصاص في النفوس، أو الأطراف بمال يتفقان عليه، أو المعاوضة عن ديات النفوس والأطراف والجروح أو يصلح الحاكم بين الخصوم بما تقتضيه الحال، متحرياً في ذلك مصلحتهما جميعاً.
فكل هذا داخل في قوله  : "الصلح جائز بين المسلمين".
فإن تضمن الصلح تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، فهو فاسد بنص هذا الحديث، كالصلح على رق الأحرار، أو إباحة الفروج المحرمة، أو الصلح الذي فيه ظلم. ولهذا قيده الله بقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(2)
أو صلح اضطرار كالمكره، وكالمرأة إذا عضلها زوجها ظلماً لتفتدي منه، وكالصلح على حق الغير بغير إذنه وما أشبه ذلك، فهذا النوع صلح محرم غير صحيح.
وأما الشروط: فأخبر في هذا الحديث أن المسلمين على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، وهذا أصل كبير. فإن الشروط هي التي يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر مما له فيه حظ ومصلحة، فذلك جائز. وهو لازم إذا وافقه الآخر عليه، واعترف به.
وذلك مثل إذا اشترط المشتري في المبيع وصفاً مقصوداً، كشرط العبد كاتباً، أو يحسن العمل الفلاني، أو الدابة هملاجة أو لبوناً، أو الجارح صيوداً، أو الجارية بكراً أو جميلة أو فيها الوصف الفلاني المقصود.
ومثل أن يشترط المشتري: أن الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يبيع الشيء ويشترط البائع: أن ينتفع به مدة معلومة، كما باع جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما للنبي  جمله، واشترط ظهره إلى المدينة.
ومثل أن يشترط سكنى البيت، أو الدكان مدة معلومة، أو يستعمل الإناء مدة معلومة، وما أشبه ذلك.
وكذلك شروط الرهن والضمان والكفالة هي من الشروط الصحيحة اللازمة.
ومثل الشروط التي يشترطها المتشاركان في مضاربة، أو شركة عنان، أو وجوه أو أبدان، أو مساقاة، أو مزارعة: فكلها صحيحة، إلا شروطاً تحلل الحرام، وعكسه، كالتي تعود إلى الجهالة والغرر.
ومثل شروط الواقفين والموصين في أوقافهم ووصاياهم من الشروط المقصودة: فكلها صحيحة، ما لم تدخل في محرم.
وكذلك الشروط بين الزوجين، كأن تشترط دارها أو بلدها، أو نفقة معينة أو نحوها. فإن أحق الشروط أن يوفى به هذا النوع




الحديث الأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَطْل الغنيِّ ظلم. وإذا أُتْبع أحدكم على مَلِئٍ فليَتْبع"
متفق عليه.



تضمن هذا الحديث الأمر بحسن الوفاء، وحسن الاستيفاء والنهي عما يضاد الأمرين أو أحدهما.
فقوله: "مطل الغني ظلم" أي: المعاسرة في أداء الواجب ظلم؛ لأنه ترك لواجب العدل؛ إذ على القادر المبادرة إلى أداء ما عليه، من غير أن يحوج صاحب الحق إلى طلب وإلحاح، أو شكاية. فمن فعل ذلك مع قدرته على الوفاء فهو ظالم.
"والغني" هو الذي عنده موجودات مالية يقدر بها على الوفاء.
ومفهوم الحديث: أن المعسر لا حرج عليه في التأخير. وقد أوجب الله على صاحب الحق إنظاره إلى الميسرة.
ونفهم من هذا الحديث: أن الظلم المالي لا يختص بأخذ مال الغير بغير حق، بل يدخل في كل اعتداء على مال الغير، أو عل حقه بأي وجه يكون.
فمن غصب مال الغير، أو سرقه، أو جحد حقاً عنده للغير، أو بعضه، أو ادعى عليه ما ليس له من أصل الحق أو وصفه، أو ماطله بحقه من وقت إلى آخر، أو أدى إليه أقل مما وجب له في ذمته – وصفاً أو قدراً – فكل هؤلاء ظالمون بحسب أحوالهم. والظلم ظلمات يوم القيامة على أهله.
ثم ذكر في الجملة الأخرى حسن الاستيفاء، وأن من له الحق عليه أن يَتْبَع صاحبه بمعروف وتيسير، لا بإزعاج ولا تعسير، ولا يرهقه من أمره عسراً، ولا يمتنع عليه إذا وجهه إلى جهة ليس عليه فيها مضرة ولا نقص. فإذا أحاله بحقه على ملئ – أي: قادر على الوفاء غير مماطل ولا ممانع – فليحتل عليه؛ فإن هذا من حسن الاسيتفاء والسماحة.
ولهذا ذكر الله تعالى الأمرين في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}(1) فأمر صاحب الحق أن يتبع من عليه الحق بالمعروف، والمستحسن عرفاً وعقلاً، وأن يؤدي من عليه الحق بإحسان.
وقد دعا  لمن اتصف بهذا الوصف الجميل، فقال: "رحم الله عبداً سَمْحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى".
فالسماحة في مباشرة المعاملة، وفي القضاء، والاقتضاء، يرجى لصاحبها كل خير: ديني ودنيوي، لدخوله تحت هذه الدعوة المباركة التي لا بد من قبولها.
وقد شوهد ذلك عياناً. فإنك لا تجد تاجراً بهذا الوصف إلا رأيت الله قد صبّ عليه الرزق صباً، وأنزل عليه البركة. وعكسه صاحب المعاسرة والتعسير، وإرهاق المعاملين. والجزاء من جنس العمل. فجزاء التيسير التيسير.
وإذا كان مطل الغني ظلماً: وجب إلزامه بأداء الحق إذا شكاه غريمه. فإن أدى وإلا عُزر حتى يؤدي، أو يسمح غريمه. ومتى تسبب في تغريم غريمه بسبب شكايته: فعليه الغرم لما أخذ من ماله، لأنه هو السبب، وذلك بغير حق. وكذلك كل من تسبب لتغريم غيره ظلماً فعليه الضمان.
وهذا الحديث أصل في باب الحوالة، وأمن حُوِّلَ بحقه على مليء فعليه أن يتحول، وليس له أن يمتنع.
ومفهومه: أنه إذا أحيل على غير مليء فليس عليه التحول، لما فيه من الضرر عليه.
والحق الذي يتحول به: هي الديون الثابتة بالذمم، من قرض أو ثمن مبيع، أو غيرهما.
وإذا حوله على المليء فاتبعه: برئت ذمة المحيل، وتحوَّل حق الغريم إلى من حُوِّلَ عليه. والله أعلم.







الحديث الحادي والأربعون
عن سمرة بن جُنْدب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت، حتى تؤدِّيَه"
رواه أهل السنن إلا النسائي.



وهذا شامل لما أخذته من أموال الناس بغير حق كالغضب ونحوه، وما أخذته بحق، كرهن وإجارة.
أما القسم الأول: فهو الغصب. وهو أخذ مال الغير بغير حق بغير رضاه. وهو من أعظم الظلم والمحرمات؛ فإن رسول الله  يقول: "من غصب قيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين".
وعلى الغاصب أن يرد ما أخذه، ولو غَرَم على رده أضعاف قيمته، ولو صار عليه ضرر في رده، لأنه هو الذي أدخل الضرر على نفسه. فإن نقص ردَّه مع أرش نقصه. وعليه أجرته مدة بقائه بيده، وإن تلف ضمنه.
وأما إذا كانت اليد أخذت مالك الغير برضى صاحبه، بإجارة، أو رهن، أو مضاربة، أو مساقاة، أو مزارعة، أو غيرها: فصاحب اليد أمين؛ لأن صاحب العين قد ائتمنه، فإن تلفت وهي بيده، بغير تعدٍّ ولا تفريط: فلا ضمان عليه. وإن تلفت بتفريط في حفظها أو تعدٍّ عليها: ضمنها ومتى انقضى الغرض منها ردها إلى صاحبها.
ودخل في هذا الحديث "على اليد ما أخذت حتى تؤديه".
وكذلك العارية على المستعير أن يردها إلى صاحبها بانقضاء الغرض منها، أو طلب ربها؛ لأن العارية عقد جائز لا لازم.
فإن تلفت العارية بغير تعد ولا تفريط. فمن العلماء من ضَمَّنه، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد. ومنهم من لم يضمنه كسائر الأمناء.
ومنهم من فصَّل: فإن شرط ضَمَانَها ضمِنَها، وإلا فلا. وهو أحسن الأقوال الثلاثة.
ولكن لو وجد المال بيد مجنون، أو سفيه، أو صغير، فأخذه ليحفظه، فتلف بيده بغير تعدّ ولا تفريط: فإنه محسن، وما على المحسنين من سبيل.
ولو أخذ اللقطة التي يجوز التقاطها، فعليه تعريفها عاماً كاملاً. فإن لم تعرف: فهي لواجدها. فإن وجد صاحبها بعد ذلك ووصفها: سلمها إليه إن كانت موجودة، وضمنها إن كان قد أتلفها باستعمال أو غيره. وإن تلفت في حول التعريف بغير تفريط ولا تعد: فلا ضمان على الملتقط؛ لأنه من جملة الأمناء، وهي حينئذ لم تدخل في ملكه. والله أعلم.







الحديث الثاني والأربعون
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم. فإذا وقعت الحدود، وصُرفت الطرق، فلا شفعة"
رواه البخاري.



يؤخذ من هذا الحديث: أحكام الشفعة كلها، وما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه.
والشفعة إنما هي في الأموال المشتركة. وهي قسمان: عقار وغيره.
فأثبت في هذا الحديث الشفعة في العقار. ودلّ على أن غير العقار لا شفعة فيه، فالشركة في الحيوانات، والأثاثات، والنقود، وجميع المنقولات لا شفعة فيها، إذا باع أحدهما نصيبه منها.
وأما العقارات: فإذا أفرزت وحددت الحدود، وصرفت الطرق واختار كل من الشريكين نصيبه فلا شفعة فيها، كما هو نص الحديث لأنه يصير حينئذ جاراً، والجار لا شفعة له على جاره.
وأما إذا لم تحد الحدود ولم تصرف الطرق، ثم باع أحدهم نصيبه: فللشريك أو الشركاء الباقين الشفعة، بأن يأخذوه بالثمن الذي وقع عليه العقد، كُلٍّ على قدر ملكه.
وظاهر الحديث: أنه لا فرق بين العقار الذي تمكن قسمته والذي لا تمكن وهذا هو الصحيح؛ لأن الحكمة في الشفعة – وهي إزالة الضرر عن الشريك – موجودة في النوعين. والحديث عام.
وأما ما استدل به على التفريق بين النوعين: فضعيف.
واختلف العلماء في شفعة الجار على جاره، إذا كان بينهما حق من حقوق الملكين، كطريق مشترك، أو بئر أو نحوهما.
فمنهم: من أوجب الشفعة في هذا النوع، وقال: إن هذا الاشتراك في هذا الحق نظير الاشتراك في جميع الملك، والضرر في هذا كالضرر هناك. وهو الذي تدل عليه الأدلة.
ومنهم: من لم يثبت فيه شفعة، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
ومنهم: من أثبت الشفعة للجار مطلقاً. وهذه الصورة عنده من باب أولى، كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة.
والنبي  أثبت للشريك الشفعة: إن شاء أخذ، وإن شاء لم يأخذ، وهو من جملة الحقوق، التي لا تسقط إلا بإسقاطها صريحاً، أو بما يدل على الإسقاط.
وأما اشتراط المبادرة جداً إلى الأخذ بها، من غير أن يكون له فرصة في هذا الحق المتفق عليه: فهذا قول لا دليل عليه.
وما استدلوا به من الحديثين اللذين أوردهما: "الشفعة كحل العقال"، "الشفعة لمن واثبها"(1) فلم يصلح منهما عن النبي  شيء.
فالصحيح: أن هذا الحق كغيره من الحقوق من خيار الشرط، أو العيب أو نحوها الحق ثابت إلا إن أسقطه صاحبه بقول أو فعل والله أعلم.







الحديث الثالث والأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين، ما لم يَخُن أحدهما صاحبه. فإن خانه خرجت من بينهما"
رواه أبو داود.



يدل هذا الحديث بعمومه على جواز أنواع الشركات كلها: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة وغيرها من أنواع الشركات التي يتفق عليها المتشاركان.
ومن منع شيئاً منها فعليه الدليل الدال على المنع، وإلا فالأصل الجواز، لهذا الحديث، وشموله. ولأن الأصل الجواز في كل المعاملات.
ويدل الحديث على فضل الشركات وبركتها، إذا بنيت على الصدق والأمانة. فإن من كان الله معه بارك له في رزقه، ويسر له الأسباب التي ينال بها الرزق، رزقه من حيث لا يحتسب، وأعانه وسدده.
وذلك: لأن الشركات يحصل فيها التعاون بين الشركاء في رأيهم وفي أعمالهم. وقد تكون أعمالاً لا يقدر عليها كل واحد بمفرده، وباجتماع الأعمال والأموال يمكن إدراكها.
والشركات أيضاً يمكن تفريعها وتوسيعها في المكان والأعمال وغيرها.
وأيضاً: فإن الغالب أنها يحصل بها من الراحة ما لا يحصل بتفرد الإنسان بعلمه. وقد يجري ويدير أحدهما العمل مع راحة الآخر، أو ذهابه لبعض مهماته، أو وقت مرضه.
وهذا كله مع الصدق والأمانة. فإذا دخلتها الخيانة ونوى أحدهما أو كلاهما خيانة الآخر، وإخفاء ما يتمكن منه خرج الله من بينهما. وذهبت البركة. ولم تتيسر الأسباب. والتجربة والمشاهدة تشهد لهذا الحديث. والله أعلم.





الحديث الرابع والأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"
رواه مسلم.



دار الدنيا جعلها الله دار عمل، يتزود منها العباد من الخير، أو الشر، للدار الأخرى، وهي دار الجزاء. وسيندم المفرطون إذا انتقلوا من هذه الدار، ولم يتزودوا منها لآخرتهم ما يسعدهم، وحينئذ لا يمكن الاستدراك. ولا يتمكن العبد أن يزيد حسناته مثقال ذرة، ولا يمحو من سيئاته كذلك. وانقطع عمل العبد عنه إلا هذه الأعمال الثلاثة التي هي من آثار عمله.
الأول – الصدقة الجارية: أي: المستمر نفعها. وذلك كالوقف للعقارات التي ينتفع بمغلِّها، أو الأواني التي ينتفع باستعمالها، أو الحيوانات التي ينتفع بركوبها ومنافعها، أو الكتب والمصاحف التي ينتفع باستعمالها والانتفاع بها، أو المساجد والمدارس والبيوت وغيرها التي ينتفع بها.
فكلها أجرها جارٍ على العبد ما دام ينتفع بشيء منها. وهذا من أعظم فضائل الوقف. وخصوصاً الأوقاف التي فيها الإعانة على الأمور الدينية، كالعلم والجهاد، والتفرغ للعبادة، ونحو ذلك.
ولهذا اشترط العلماء في الوقف: أن يكون مصرفه على جهة بر وقربة.
الثاني – العلم الذي ينتفع به من بعده: كالعلم الذي علمه الطلبة المستعدين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس، والكتب التي صنفها في أصناف العلوم النافعة.
وهكذا كل ما تسلسل الانتفاع بتعليمه مباشرة، أو كتابة، فإن أجره جار عليه. فكم من علماء هداة ماتوا من مئات من السنين، وكتبهم مستعملة، وتلاميذهم قد تسلسل خيرهم. وذلك فضل الله.
الثالث – الولد الصالح: ولد صلب، أو ولد ابن، أو بنت، ذكر أو أنثى – ينتفع والده بصلاحه ودعائه. فهو في كل وقت يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، ورفع الدرجات، وحصول المثوبات.
وهذه المذكورة في هذا الحديث هي مضمون قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}(1).
فما قدموا: هو ما باشروه من الأعمال الحسنة أو السيئة.
وآثارهم ما ترتب على أعمالهم، مما عمله غيرهم، أو انتفع به غيرهم.
وجميع ما يصل إلى العبد من آثار عمله ثلاثة:
الأول: أمور عمل بها الغير بسببه وبدعايته وتوجيهه.
الثاني: أمور انتفع بها الغير أيّ نفع كان، على حسب ذلك النفع باقتدائه به في الخير.
الثالث: أمور عملها الغير وأهداها إليه، أو صدقة تصدق بها عنه أو دعا له، سواء أكان من أولاده الحسيين أو من أولاده الروحيين الذين تخرجوا بتعليمه، وهدايته وإرشاده، أو من أقاربه وأصحابه المحبين، أو من عموم المسلمين، بحسب مقاماته في الدين، وبحسب ما أوصل إلى العباد من الخير، أو تسبب به. وبحسب ما جعل الله له في قلوب العباد من الود الذي لا بد أن تترتب عليه آثاره الكثيرة التي منها: دعاؤهم، واستغفارهم له.
وكلها تدخل في هذا الحديث الشريف.
وقد يجتمع للعبد في شيء واحد عدة منافع. كالولد الصالح العالم الذي سعى أبوه في تعليمه، وكالكتب التي يقفها أو يهبها لمن ينتفع بها.
ويستدل بهذا الحديث على الترغيب في التزوج الذي من ثمراته حصول الأولاد الصالحين، وغيرها من المصالح، كصلاح الزوجة وتعليمها ما تنتفع به، وتنفع غيرها. والله أعلم.
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 3:58 pm

الحديث السادس والأربعون
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألحَقوا الفرائض بأهلها. فما بقى فهو لأوْلى رجل ذكر"
متفق عليه.


الحديث السابع والأربعون
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث"
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.



هذان الحديثان اشتملا على جلّ أحكام المواريث، وأحكام الوصايا فإن الله تعالى فصَّل أحكام المواريث تفصيلاً تاماً واضحاً، وأعطى كل ذي حق حقه. وأمر  أن يلحق الفرائض بأهلها، فيقدمون على العصبات. فما بقي فهو لأوْلى رجل ذكر. وهم العصبة من الفروع الذكور، والأصول الذكور، وفروع الأصول الذكور، والولاء.
فيقدم من هذه الجهات إذا اجتمع عاصبان فأكثر: الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة. فيقدم الابن على ابن الابن، والعم مثلاً على ابن العم. فإن كانوا في منزلة واحدة، وتميز أحدهم بقوة القرابة ولا يتصور ذلك إلا في فروع الأصول، كالإخوة والأعمام مطلقاً وبنيهم: قدم الأقوى – وهو الشقيق- على الذي لأب.
وهذا هو المراد بقوله  : "لأولى رجل ذكر" أي: أقربهم جهة، أو منزلة، أو قوة، على حسب هذا الترتيب.
وعلم من هذا: أن صاحب الفرض مقدم على العاصب في البداءة، وأنه إن استغرقت الفروض التركة سقط العاصب في جميع مسائل الفرائض، حتى في الحِمَارِيَّة، وهي ما إذا خَلَّفت زوجاً، وأُمَّاً، وإخوة لأم وإخوة أشقاء: فللزوج النصف، وللأم السدس؛ وللإخوة لأم الثلث.
فهؤلاء أهل فروض ألحقنا بهم فروضهم، وسقط الأشقاء؛ لأنهم عصبات. وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة. هذا أوضحها.
ويستدل بقوله  : "ألحقوا الفرائض بأهلها" على أن الفروض إذا كثرة تزاحمت ولم يحجب بعضها بعضاً، فإنه يعول لهم، وتنقص فروضهم بحسب ما عالت به كالديون إذا أدلت على موجودات الغريم التي لا تكفي لدينهم؛ فإنهم يعطون بقدر ديونهم وهذا من العدل.
فكل مشتركين في استحقاق شيء لا يمكن أن يكمل لكل واحد منهم، وليس لواحد منهم مزية تقديم: فإنهم ينقصون على قدر استحقاقهم، وذلك في الهبات والوصايا والأوقاف وغيرها، كما أن الزائد لهم بقدر أملاكهم واستحقاقهم.
ويدل الحديث أنه إذا لم يوجد صاحب فرض، فالمال كله للعصبات على حسب الترتيب السابق.
وكذلك يدلّ على أنه إذا لم يوجد إلا أصحاب الفروض، ولم يوجد عاصب، فإنه يرد عليهم على قدر فروضهم، كما تعالى عليهم؛ لأن من حكمة فرض الفروض وتقديرها: أن تبقى البقية للعاصب. فإذا لم يوجد رُدَّ على المستحقين لعدم المزاحم.
ويدل الحديث على صحة الوصية لغير الوارث. ولكن في ذلك تفصيل: إن كان الموصي غنياً ويدع ورثته أغنياء، استحبت. وإن كان فقيراً وورثته يحتاجون جميع ميراثه، لفقرهم أو كثرتهم: فالأولى له أن لا يوصى، بل يدع ماله لورثته.
وأما الوصية للوارث: فالحديث دلّ على منعها. وعلل ذلك بقوله  : "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث".
فمن أوصى لوارث فقد تعدى حدود الله، وفضل بعض الورثة على بعض. وسواء وقع ذلك على وجه الوصية أو الهبة للوارث، كما هو اتفاق العلماء، أو على وجه الوقف لثلثه على بعض ورثته.
وشذ بعضهم في هذه المسألة، فأجازها. وهو منافٍ للفظ الحديث ومعناه.
وأما الوصية للأجنبي، أو للجهات الدينية، فتجوز بالثلث فأقل. وما زاد على الثلث: يتوقف على إجازة الورثة.






الحديث الثامن والأربعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ حقٌّ على الله عَوْنُهم: المُكاتب يريد الأداء، والمتزوج يريد العَفاف، والمجاهد في سبيل الله"
رواه أهل السنن إلا النسائي.



وذلك: أن الله تعالى وعد المنفقين بالخلف العاجل، وأطلق النفقة. وهي تنصرف إلى النفقات التي يحبها الله؛ لأن وعده بالخلف من باب الثواب الذي لا يكون إلا على ما يحبه الله.
وأما النفقات في الأمور التي لا يحبها الله: إما في المعاصي، وإما في الإسراف في المباحات: فالله لم يضمن الخلف لأهلها، بل لا تكون إلا مغرماً.
وهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث من أفضل الأمور التي يحبها الله.
فالجهاد في سبيل الله هو سنام الدين وذروته وأعلاه. وسواء كان جهاداً بالسلاح، أو جهاداً بالعلم والحجة. فالنفقة في هذا السبيل مخلوفة وسالكُ هذا السبيل معانٌ من الله، مُيَسَّرٌ له أمرُه.
وأما المكاتب: فالكتابة قد أمر الله بها في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}(1) أي: صلاحاً في تقويم دينهم ودنياهم. فالسيد مأمور بذلك. والعبد المكاتب الذي يريد الأداء، ويتعجل الحرية والتفرغ لدينه ودنياه يعينه الله، وييسر له أموره، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
وعلى السيد: أن يرفق بمكاتبه في تقدير الآجال التي تحل فيها نُجُوم الكتابة، ويعطيه من مال الكتابة إذا أدَّاها ربعها.
وفي قوله تعالى في حق المكاتبين {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}(2) أمر للسيد ولغيره من المسلمين. ولذلك جعل الله له نصيباً من الزكاة في قوله: {وَفِي الرِّقَابِ}(3) وهذا من عونه تعالى.
وقد ثبت عن النبي  ما هو أعمّ من هذا، فقال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّاها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" رواه البخاري.
وأما النكاح: فقد أمر الله به ورسوله. ورتب عليه من الفوائد شيئاً كثيراً: عون الله، وامتثال أمر الله ورسوله، وأنه من سنن المرسلين.
وفيه: تحصين الفرج، وغض البصر، وتحصيل النسل، والإنفاق على الزوجة والأولاد؛ فإن العبد إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له أجراً، وحسنات عند الله، سواء كانت مأكولاً أو مشروباً أو ملبوساً أو مستعملاً في الحوائج كلها. كله خير للعبد، وحسنات جارية. وهو أفضل من نوافل العبادات القاصرة.
وفيه: التذكر لنعم الله على العبد، والتفرغ لعبادته، وتعاون الزوجين على مصالح دينهما ودنياهما، وقد قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء}(1) وقال  : "تنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها، ودينها: فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك" لما فيها من صلاح الأحوال والبيت والأولاد، وسكون قلب الزوج وطمأنينته، فإن حصل مع الدين غيره فذاك، وإلا فالدين أعظم الصفات المقصودة، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ}(2).
وعلى الزوجة: القيام بحق الله، وحق بَعْلها، وتقديم حق البعل على حقوق الخلق كلهم.
وعلى الزوج: السعي في إصلاح زوجته، وفعل جميع الأسباب التي تتم بها الملاءمة بينهما، فإن الملاءمة هي المقصود الأعظم. ولهذا ندب النبي  إلى النظر إلى المرأة التي يريد خطبتها؛ ليكون على بصيرة من أمره والله أعلم.






الحديث التاسع والأربعون
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرُم من الرَّضاعة ما يحرم من الولادة"
متفق عليه.



وذلك: أن المحرمات من النسب بنص القرآن والإجماع: الأمهات وإن عَلْون من كل جهة، والنبات وإن نزلن من كل جهة، والأخوات مطلقاً، وبنات الأخوة، وبنات الأخوات وإن نزلن، والعمات، والخالات.
فجميع القرابات حرام، إلا بنات الأعمام، وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات.
وهذه السبع محرمات في الرضاع من جهة المرضعة، وصاحب اللبن، إذا كان الرضاع خمس رضعات فأكثر، في الحولين.
وأما من جهة أقارب الراضع: فإن التحريم يختص بذرية الراضع. وأما أبوه من النسب وأمه وأصولهم وفروعهم، فلا تعلق لهم بالتحريم.
وكذلك يحرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، أو خالتها في النسب. ومثل ذلك في الرضاع.
وكذلك تحرم أمهات الزوجة، وإن علون، وبناتها، وإن نزلن، إذا كان قد دخل بزوجته، وزوجات الآباء، وإن علوا، وزوجات الأبناء وإن نزلوا من كل جهة، ومثل ذلك في الرضاع.
ومسائل تحريم الجمع والصهر في الرضاع فيه خلاف. ولكن مذهب جمهور العلماء والأئمة الأربعة، تحريم ذلك للعمومات.









الحديث الخمسون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَفْرِك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر"
رواه مسلم.



هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم، للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته. والنهي عن الشيء أمر بضده. وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها؛ فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسوء عشرتها، رآه شيئاً واحداً أو اثنين مثلاً، وما فيها مما يحب أكثر. فإذا كان منصفاً غض عن مساوئها لاضمحلالها في محاسنها.
وبهذا: تدوم الصحبة، وتؤدّى الحقوق الواجبة والمستحبة وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله.
وأما من غض عن المحاسن، ولحظ المساوئ ولو كانت قليلة. فهذا من عدم الإنصاف. ولا يكاد يصفو مع زوجته.
والناس في هذا ثلاثة أقسام:
أعلاهم: من لحظ الأخلاق الجميلة والمحاسن، وغض عن المساوئ بالكلية وتناساها.
وأقلهم توفيقاً وإيماناً وأخلاقاً جميلة: من عكس القضية، فأهدر المحاسن مهما كانت، وجعل المساوئ نصب عينيه. وربما مددها وبسطها وفسرها بظنون وتأويلات تجعل القليل كثيراً، كما هو الواقع.
والقسم الثالث: من لحظ الأمرين، ووازن بينهما، وعامل الزوجة بمقتضى كل واحد منها. وهذا منصف. ولكنه قد حرم الكمال.
وهذا الأدب الذي أرشد إليه  ، ينبغي سلوكه واستعماله مع جميع المعاشرين والمعاملين؛ فإن نفعه الديني والدنيوي كثير وصاحبه قد سعى في راحة قلبه. وفي السبب الذي يدرك به القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة؛ لأن الكمال في الناس متعذر. وحسب الفاضل أن تعدَّ معايبه. وتوطين النفس على ما يجيء من المعاشرين مما يخالف رغبة الإنسان يسهل عليه حسن الخلق، وفعل المعروف والإحسان مع الناس. والله الموفق.





الحديث الحادي والخمسون
عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكِّلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فائْتِ الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك"
متفق عليه.



هذا الحديث احتوى على جملتين عظيمتين:
إحداهما: أن الإمارة وغيرها من الولايات على الخلق، لا ينبغي للعبد أن يسألها، ويتعرض لها. بل يسأل الله العافية والسلامة، فإنه لا يدري، هل تكون الولاية خيراً له أو شراً؟ ولا يدري، هل يستطيع القيام بها، أم لا؟
فإذا سألها وحرص عليها، وُكِّلَ إلى نفسه. ومتى وُكِّلَ العبد إلى نفسه لم يوفق، ولم يسدد في أموره، ولم يُعَن عليها؛ لأن سؤالها ينبئ عن محذورين:
الأول: الحرص على الدنيا والرئاسة، والحرص يحمل على الريبة في التخوض في مال الله، والعلو على عباد الله.
الثاني: فيه نوع اتكال على النفس، وانقطاع عن الاستعانة بالله. ولهذا قال: "وكلت إليها".
وأما من لم يحرص عليها ولم يتشوف لها، بل أتته من غير مسألة ورأى من نفسه عدم قدرته عليها، فإن الله يعينه عليها، ولا يكله إلى نفسه؛ لأنه لم يتعرض للبلاء، ومن جاءه البلاء بغير اختياره حمل عنه، ووفق للقيام بوظيفته. وفي هذه الحال يقوى توكله على الله تعالى، ومتى قام العبد بالسبب متوكلاً على الله نجح.
وفي قوله  : "أعنت عليها" دليل على أن الإمارة وغيرها من الولايات الدنيوية جامعة للأمرين، للدين، والدنيا؛ فإن المقصود من الولايات كلها: إصلاح دين الناس ودنياهم.
ولهذا: يتعلق بها الأمر والنهي، والإلزام بالواجبات، والردع عن المحرمات، والإلزام بأداء الحقوق. وكذلك أمور السياسة والجهاد، فهي لمن أخلص فيها لله وقام بالواجب من أفضل العبادات، ولمن لم يكن كذلك من أعظم الأخطار.
ولهذا كانت من فروض الكفايات؛ لتوقف كثير من الواجبات عليها.
فإن قيل: كيف طلب يوسف  وِلايةَ الخزائن المالية في قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ}(1).
قيل: الجواب عنه قوله تعالى: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(2) فهو إنما طلبها لهذه المصلحة التي لا يقوم بها غيره: من الحفظ الكامل، والعلم بجميع الجهات المتعلقة بهذه الخزائن. من حسن الاستخراج، وحسن التصريف، وإقامة العدل الكامل. فهو لما رأى الملك استخلصه لنفسه وجعله مقدماً عليه، وفي المحل العالي وجب عليه أيضاً النصيحة التامة، للملك والرعية. وهي متعينة في ولايته.
ولهذا: لما تولى خزائن الأرض سعى في تقوية الزراعة جداً. فلم يبق موضع في الديار المصرية من أقصاها إلى أقصاها يصلح للزراعة إلا زرع في مدة سبع سنين. ثم حصنه وحفظه ذلك الحفظ العجيب. ثم لما جاءت السنون الجدب، واضطر الناس إلى الأرزاق سعى في الكيل للناس بالعدل، فمنع التجار من شراء الطعام خوف التضييق على المحتاجين، وحصل بذلك من المصالح والمنافع شيء لا يعد ولا يحصى، كما هو معروف.
الجملة الثانية: قوله  : "وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك".
يشمل من حلف على ترك واجب، أو ترك مسنون؛ فإنه يكفر عن يمينه، ويفعل ذلك الواجب والمسنون الذي حلف على تركه. ويشمل من حلف على فعل محرم، أو فعل مكروه فإنه يؤمر بترك ذلك المحرم والمكروه، ويكفر عن يمينه.
فالأقسام الأربعة داخلة في قوله  : "فائت الذي هو خير" لأن فعل المأمور مطلقاً، وترك المنهي مطلقاً: من الخير.
وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ}(1) أي: لا تجعلوا اليمين عذراً لكم وعرضة ومانعاً لكم من فعل البر والتقوى، والصلح بين الناس إذا حلفتم على ترك هذه الأمور، بل كفروا أيمانكم، وافعلوا البر والتقوى، والصلح بين الناس.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن حفظ اليمين في غير هذه الأمور أولى، لكن إن كانت اليمين على فعل مأمور، أو ترك منهي، لم يكن له أن يحنث. وإن كانت في المباح، خيّر بين الأمرين. وحفظها أولى.
واعلم أن الكفَّارة لا تجب إلا في اليمين المنعقدة على مستقبل إذا حلف وحنث. وهي على التخيير بين العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
وأما اليمين على الأمور الماضية أو لغو اليمين، كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله في عرض حديثه: فلا كفارة فيها. والله أعلم.





الحديث الثالث والخمسون
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. ويرد عليهم أقصاهم. وهم يَدٌ على من سواهم. ألا، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عَهْد في عهده"
رواه أبو داود والنسائي. ورواه ابن ماجه عن ابن عباس.



هذا الحديث كالتفصيل لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1) وقوله  : "وكونواعباد الله إخوانا".
فعلى المؤمنين: أن يكونوا متحابين، متصافين غير متباغضين ولا متعادين. يسعون جميعاً لمصالحهم الكلية التي بها قوام دينهم ودنياهم، لا يتكبر شريف على وضيع، ولا يحتقر أحد منهم أحداً. فدماؤهم تتكافأ؛ فإنه لا يشترط في القصاص إلا المكافأة في الدين. فلا يقتل المسلم بالكافر، كما في هذا الحديث، والمكافأة في الحرية، فلا يقتل الحرب بالعبد.
وأما بقية الأوصاف، فالمسلمون كلهم على حد سواء. فمن قتل أو قطع طرفاً متعمداً عدواناً، فلهم أن يقتصوا منه بشرط المماثلة في العضو، لا فرق بين الصغير بالكبير، وبالعكس، والذكر والأنثى وبالعكس، والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، والكامل بالناقص كالعكس في هذه الأمور.
قوله  : "ويسعى بذمتهم أدناهم" يعني: أن ذمة المسلمين واحدة. فمتى استجار الكافر بأحد من المسلمين وجب على بقيتهم تأمينه، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}(2) فلا فرق في هذا بين إجارة الشريف الرئيس، وبين آحاد الناس.
وقوله  : "ويرد عليهم أقصاهم" أي: في التأمين. وكذلك اشتراك الجيوش مع سراياه التي تذهب فتُغِير أو تحرس، فمتى غنم الجيش، أو غنم أحد السرايا التابعة للجيش، اشترك الجميع في المغنم. ولا يختص بها المباشر؛ لأنهم كلهم متعاونون على مهمتهم.
وقوله  : "وهم يَدٌ على من سواهم" أي: يجب على جميع المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن يكونوا يداً على أعدائهم من الكفار، بالقول والفعل، والمساعدات والمعاونة في الأمور الحربية، والأمور الاقتصادية، والمدافعة بكل وسيلة.
فعلى المسلمين: أن يقوموا بهذه الواجبات بحسب استطاعتهم؛ لينصرهم الله ويعزهم، ويدفع عنهم بالقيام بواجبات الإيمان عدوان الأعداء. فنسأله تعالى أن يوفقهم لذلك.
وقوله  : "ولا ذو عهد في عهده" أي: لا يحل قتل من له عهد من الكفار بذمة أو أمان أو هدنة؛ فإنه لما قال: "لا يقتل مسلم بكافر" احترز بذلك البيان عن تحريم قتل المعاهد؛ لئلا يظن الظان جوازه. والله أعلم.






الحديث الرابع والخمسون
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تطبَّب ولم يُعلم منه طِبٌّ، فهو ضامن"
رواه أبو داود والنسائي.



هذا الحديث يدلّ بلفظه وفحواه على: أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها، سواء كان طباً أو غيره، وأن من تجرأ على ذلك: فهو آثم. وما ترتب على عمله من تلف نفس أو عضو أو نحوهما: فهو ضامن له. وما أخذه من المال في مقابلة تلك الصناعة التي لا يحسنها: فهو مردود على باذله؛ لأنه لم يبذله إلا بتغريره وإيهامه أنه يحسن، وهو لا يحسن، فيدخل في الغش. و "من غشنا فليس منا".
ومثل هذا البنَّاء والنجار والحداد والخراز والنساج ونحوهم ممن نصَب نفسه لذلك، موهماً أنه يحسن الصنعة، وهو كاذب.
ومفهوم الحديث: أن الطبيب الحاذق ونحوه إذا باشر ولم تجن يده وترتب على ذلك تلف، فليس بضامن؛ لأنه مأذون فيه، من المكلف أو وليه. فكل ما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون، وما ترتب على غير ذلك المأذون فيه، فإنه مضمون.
ويستدل بهذا على: أن صناعة الطب من العلوم النافعة المطلوبة شرعاً وعقلاً. والله أعلم.
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 4:00 pm

الحديث الخامس والخمسون
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ادْرَءُوا الحُدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله. فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة"
رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً.



هذا الحديث: يدلّ على أن الحدود تدرأ بالشبهات. فإذا اشتبه أمر الإنسان وأشكل علينا حاله، ووقعت الاحتمالات: هل فعل موجب الحد أم لا؟ وهل هو عالم أو جاهل؟ وهل هو متأول معتقد حلّه أم لا؟ وهل له عذر عقد أو اعتقاد؟: درأت عنه العقوبة؛ لأننا لم نتحقق موجبها يقيناً.
ولو تردد الأمر بين الأمرين، فالخطأ في درء العقوبة عن فاعل سببها، أهون من الخطأ في إيقاع العقوبة على من لم يفعل سببها، فإن رحمة الله سبقت غضبه، وشريعته مبنية على اليسر والسهولة.
والأصل في دماء المعصومين وأبدانهم وأموالهم التحريم، حتى نتحقق ما يبيح لنا شيء من هذا.
وقد ذكر العلماء على هذا الأصل في أبواب الحدود أمثلة كثيرة، وأكثرها موافق لهذا الحديث.
ومنها: أمثلة فيها نظر. فإن الاحتمال الذي يشبه الوهم والخيال، لا عبرة به. والميزان لفظ هذا الحديث. فإن وجدتم له، أو فإن كان له مخرج، فخلو سبيله.
وفي هذا الحديث: دليل على أصل. وهو: أنه إذا تعارض مفسدتان تحقيقاً أو احتمالاً: راعينا المفسدة الكبرى، فدفعناها تخفيفاً للشر. والله أعلم.




الحديث السادس والخمسون
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا طاعة في معصية. إنما الطاعة في المعروف"
متفق عليه.



هذا الحديث: قيد في كل من تجب طاعته من الولاة، والوالدين، والزوج، وغيرهم. فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء.
وكل منهم طاعته فيما يناسب حاله وكلها بالمعروف. فإن الشارع ردّ الناس في كثير مما أمرهم به إلى العرف والعادة، كالبر والصلة، والعدل والإحسان العام. فكذلك طاعة من تجب طاعته.
وكلها تقيد بهذا القيد، وأن من أمر منهم بمعصية الله بفعل محرم، أو ترك واجب: فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، فإذا أمر أحدهم بقتل معصوم أو ضربه، أو أخذ ماله، أو بترك حج واجب، أو عبادة واجبة، أو بقطيعة من تجب صلته: فلا طاعة لهم، وتقدم طاعة الله على طاعة الخلق.
ويفهم من هذا الحديث، أنه إذا تعارضت طاعة هؤلاء الواجبة، ونافلة من النوافل، فإن طاعتهم تقدم؛ لأن ترك النفل ليس بمعصية، فإذا نهى زوجته عن صيام النفل، أو حج النفل، أو أمر الوالي بأمر من أمور السياسة يستلزم ترك مستحب، وجب تقديم الواجب.
وقوله  : "إنما الطاعة في المعروف" كما أنه يتناول ما ذكرنا، فإنه يتناول أيضاً تعليق ذلك بالقدرة والاستطاعة، كما تعلق الواجبات بأصل الشرع.
وفي الحديث "عليكم السمع والطاعة فيما استطعتم" والله أعلم.








الحديث السابع والخمسون
عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم، فاجتهد وأصاب، فله أجران. وإذا حكم، فاجتهد فأخطأ، فله أجر واحد"
متفق عليه.



المراد بالحاكم: هو الذي عنده من العلم ما يؤهله للقضاء. وقد ذكر أهل العلم شروط القاضي. فبعضهم بالغ فيها، وبعضهم اقتصر على العلم الذي يصلح به للفتى. وهو الأولى.
ففي هذا الحديث: أن الجاهل لو حكم وأصاب الحكم: فإنه ظالم آثم؛ لأنه لا يحل له الإقدام على الحكم، وهو جاهل.
ودلّ على: أنه لا بد للحاكم من الاجتهاد. وهو نوعان:
اجتهاد في إدخال القضية التي وقع فيها التحاكم بالأحكام الشرعية.
واجتهاد في تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما، بحيث يكون الناس عنده في هذا الباب واحداً، لا يفضل أحداً على أحد، ولا يميله الهوى، فمتى كان كذلك فهو مأجور على كل حال: إن أصاب فله أجران. وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه معفو عنه، لأنه بغير استطاعته. والعدل كغيره معلق بالاستطاعة.
والفرق بين الحاكم المجتهد، وبين صاحب الهوى: أن صاحب الحق قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد. وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده عليه دليله، بخلاف صاحب الهوى، فإنه يتكلم بغير علم، وبغير قصد للحق. قاله شيخ الإسلام.
وفي هذا: فضيلة الحاكم الذي على هذا الوصف، وأنه يغنم الأجر والثواب في كل قضية يحكم بها.
ولهذا: كان القضاء من أعظم فروض الكفايات؛ لأن الحقوق بين الخلق كلها مضطرة للقاضي عند التنازع أو الاشتباه.
وعليه: أنه يجاهد نفسه على تحقيق هذا الاجتهاد الذي تبرأ به ذمته، وينال به الخير، والأجر العظيم. والله أعلم.





الحديث الثامن والخمسون
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو يُعطى الناسُ بدَعْواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه"
رواه مسلم.



وفي لفظ عند البيهقي: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر".
هذا الحديث عظيم القدر. وهو أصل كبير من أصول القضايا والأحكام؛ فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع: هذا يدّعي على هذا حقاً من الحقوق، فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه.
فبين  أصلاً يفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل.
فمن ادعى عيناً من الأعيان، أو ديناً، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير: فالأصل مع المنكر.
فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق: ثبت له، وحُكم له به وإن لم يأت ببينة: فليس له على الآخر إلا اليمين.
وكذلك من ادعى براءته من الحق الذي عليه، وأنكر صاحب الحق ذلك، وقال: إنه باق في ذمته، فإن لم يأت مدعي الوفاء والبراءة ببينة، وإلا حكم ببقاء الحق في ذمته؛ لأنه الأصل. ولكن على صاحب الحق اليمين ببقائه.
وكذلك دعوى العيوب، والشروط، والآجال، والوثائق: كلها من هذا الباب.
فعلم أن هذا الحديث تضطر إليه القضاة في مسائل القضاء كلها؛ لأن البينة اسم للمبين الحق. وهي تتفاوت بتفاوت الحقوق. وقد فصلها أهل العلم رحمهم الله.
وقد بين  في هذا الحديث الحكم، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد، ولادّعى رجال دماء قوم وأموالهم.
فعلم أن شريعة الإسلام بها صلاح البشر. وإذا أردت أن تعرف ذلك، فقابل بين كل شريعة من شرائعه الكلية وبين ضدها، تجد الفرق العظيم، وتشهد أن الذي شرعها حكيم عليم، رحيم بالعباد؛ لاشتمالها على الحكمة والعدل، والرحمة، ونصر المظلوم، وردع الظالم.
وقد قال بعض المحققين: إن الشريعة جعلت اليمين في أقوى جنبتي المدعين. ومن تتبع ذلك عرفه. والله أعلم.






الحديث التاسع والخمسون
عن عائشة رضي الله عنها – مرفوعاً – "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود حدّاً، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع من أهل البيت"
رواه الترمذي.



هذا حديث مشتمل على الأمور القادحة في الشهادة.
وذلك: أن الله أمر بإشهاد العدول المرضيين.
وأهل العلم اشترطوا في الشاهد في الحقوق بين الناس: أن يكون عدلاً ظاهراً. وذكروا صفات العدالة.
وحَدَّها بعضهم بحد مأخوذ من قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}(1) فقال: كل مرضى عند الناس يطمئنون لقوله وشهادته. فهو مقبول. وهذا أحسن الحدود. ولا يسع الناس العمل بغيره.
والأشياء التي تقدح في الشهادة ترجع إلى التهمة أو إلى مظنتها.
فمن الناس من لا تقبل شهادته مطلقاً على جميع الأمور التي تعتبر فيها الشهادة، كالخائن والخائنة، والذي أتى حداً – أي: معصية كبيرة لم يتب منها – فإنه لخيانته وفسقه مفقود العدالة، فلا تقبل شهادته.
ومن الناس نم هو موصوف بالعدالة، لكن فيه وصف يخشى أن يميل معه، فيشهد بخلاف الحق وذلك كالأصول والفروع، والمولى والقانع لأهل البيت. فهؤلاء لا تقبل شهادتهم للمذكورين؛ لأنه محل التهمة. وتقبل عليهم.
ومثل ذلك الزوجان، والسيد مع مكاتبه أو عتيقه.
ومن الناس من هو بعكس هؤلاء، كالعَدُوّ الذي في قلبه غمر – أي: غِلٌّ – على أخيه فهذا إن شهد له، قبلت شهادته. وإن شهد على عدوه: لم تقبل؛ لأن العداوة تحمل غالباً على الإضرار بالعدو والله أعلم





الحديث الستون
عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال "قلت يا رسول الله، إنَّا لاَقُوا العدوَّ غدا، وليس معنا مُدَى. أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكُلْ، ليس السنَّ والظَّفْرَ، وسأحدثك عنه أما السنُّ فعظمٌ. وأما الظفر فمدَى الحبشة. وأصبنا نهب إبل وغنم فنَدَّ منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه. فقال رسول الله : إن لهذه أوَابِدَ كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا".
متفق عليه.



قوله صلى الله عليه وسلم : "ما أنهر الدم – إلى آخره" كلام جامع يدخل فيه جميع ما يُنْهِر الدم – أي: يسفِكه – من حديد، أو نحاس، أو صفر، أو قصب، أو خشب، أو حطب، أو حصى محدد، أو غيرها، وما له نفوذ كالرصاص في البارود؛ لأنه ينهر بنفوذه، لا بثقله.
ودخل في ذلك: ما صيد بالسهام، والكلام المعلمة، والطيور إذا ذكر اسم الله على جميع ذلك.
وأما محل الذبح: فإنه الحلقوم والمريء. إذا قطعهما كفى. فإن حصل معهما قطع الودَجَين – وهما العرقان المكتنفان الحلقوم – كان أولى.
وأما الصيد: فيكفي جرحه في أي موضع كان من بدنه؛ للحاجة إلى ذلك.
ومثل ذلك إذا ندَّ البعير أو البقرة أو الشاة وعجز عن إدراكه: فإنه يكون بمنزلة الصيد، كما في الحديث. ففي أي محل من بدنه جُرح كفى، كما أن الصيد إذا قُدر عليه – وهو حي – فلا بد من ذكاته.
فالحكم يدور مع علته، المعجوز عنه بمنزلة الصيد، ولو من الحيوانات الإنسية. والمقدور عليه لا بد من ذبحه، ولو من الحيوانات الوحشية.
واستثنى النبي  من ذلك السن، وعلله بأنه عظم. فدلّ على أن جميع العظام – وإن أنهرت الدم – لا يحل الذبح بها.
وقيل: إن العلة مجموع الأمرين: كونه سنا، وكونه عظما. فيختص بالسن. والصحيح الأول.
وكذلك الظفر لا يحل الذبح بها، لا طير ولا غيره.
فالحاصل: أن شروط الذبح: إنهار الدم في محل الذبح، مع كون الذابح مسلماً، أو كتابياً، وأن يذكر اسم الله عليها.
وأما الصيد: فهو أوسع من الذبح. كما تقدم أنه في أي موضع يكون من بدن الصيد، وأنه يباح صيد الجوارح من الطيور والكلاب إذا كانت مُعَلَّمة، وذُكر اسم الله عليها عند إرسالها على الصيد. والله أعلم.









الحديث الحادي والستون
عن شدّاد بن أوْس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحْسِنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة. وليحدّ أحدكم شفرته ولْيُرِحْ ذبيحته"
رواه مسلم.



الإحسان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح، والتكميل لها. وإحسان في حقوق الخلق.
وأصل الإحسان الواجب، أن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك وافياً، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}(1) فأمر بالإحسان إلى جميع هؤلاء.
ويدخل في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم، حتى في الحالة التي تزهق فيها نفوسها، ولهذا قال  : "فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة".
فمن استحق القتل لموجب قتل يضرب عنقه بالسيف، من دون تعزير ولا تمثيل.
وقوله  : "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" أي: هيئة الذبح وصفته. ولهذا قال: "وليُحِدَّ أحدكم شَفرته" أي: سكينه: "وليرح ذبيحته" فإذا كان العبد مأموراً بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين، وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان. فكيف بغير هذه الحالة؟
واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان:
أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق.
والثاني: إحسان مستحب. وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان. وكل ما أزال عنهم ما يكرهون. ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان.
ولما ذكر النبي  قصة البغيّ التي سقت الكلب الشديد العطش بخفيها من البئر، وأن الله شكر لها وغفر لها. قالوا لرسول الله  : "إن لنا في البهائم أجراً قال: في كل كبد حَرَّى أجر".
فالإحسان هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك.
ومن أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل. قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(1)
{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ}(2)، {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}(3)، {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}(4)، {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(5) أي: المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله.
والله تعالى يوجب على عباده العدل من الإحسان، ويندبهم إلى زيادة الفضل منه. وقال تعالى في المعاملة: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(1.) أي: اجعلوا للفضل والإحسان موضعاً من معاملاتكم. ولا تستقصوا في جميع الحقوق، بل يَسِّروا ولا تعسروا، وتسامحوا في البيع والشراء، والقضاء والاقتضاء. ومن ألزم نفسه هذا المعروف، نال خيراً كثيراً، وإحساناً كبيراً. والله أعلم.
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الخميس أغسطس 02, 2007 4:07 pm

الحديث الثاني والستون
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحمر الإنسية، ولُحومَ البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وكلَّ ذي مخلب من الطير"
رواه الترمذي.



الأصل في جميع الأطعمة الحلّ؛ فإن الله أحل لعباده ما أخرجته الأرض من حبوب وثمار ونبات متنوع، وأحل لحم حيوانات البحر كلها: حيها وميتها.
وأما حيوانات البر: فأباح منها جميع الطيبات، كالأنعام الثمانية وغيرها، والصيود الوحشية من طيور وغيرها.
وإنما حرم من هذا النوع الخبائث، وجعل لذلك حداً وفاصلاً. وربما عين بعض المحرمات، كما عين في هذا الحديث الحمر الأهلية، والبغال وحرمها. وقال: "إنها رِجْس".
وأما الحمر الوحشية: فإنه حلال، وكذلك حرم ذوات الأنياب من السباع، كالذئب والسد والنمر والثعلب والكلب ونحوها، وكل ذي مخلب من الطير يصيد بمخلبه، كالصقر والباشق ونحوهما.
وما نهى عن قتله كالصُّرد، أو أمر بقتله كالغراب ونحوها: فإنها محرمة. وما كان خبيثاً، كالحيات والعقارب والفئران وأنواع الحشرات وكذلك ما مات حتف أنفه من الحيوانات المباحة، أو ذكِّي ذكاة غير شرعية: فإنه محرم.
والله أعلم.






الحديث الثالث والستون
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"
رواه البخاري.



الأصل في جميع الأمور العادية الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، إما لذاته كالمغصوب، وما خبث مكسبه في حق الرجال والنساء. وإما لتخصيص الحل بأحد الصنفين، كما أباح الشارع لباس الذهب والفضة والحرير للنساء، وحرمه على الرجال.
وأما تحريم الشارع تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، فهو عام في اللباس، والكلام، وجميع الأحوال.
فالأمور ثلاثة أقسام:
قسم مشترك بين الرجال والنساء من أصناف اللباس وغيره، فهذا جائز للنوعين؛ لأن الأصل الإباحة. ولا تشبه فيه.
وقسم مختص بالرجال، فلا يحل للنساء. وقسم مختص بالنساء، فلا يحل للرجال.
ومن الحكمة في النهي عن التشبه: أن الله تعالى جعل للرجال على النساء درجة، وجعلهم قَوّامين على النساء، وميزهم بأمور قَدَرية، وأمور شرعية فقيام هذا التمييز وثبوت فضيلة الرجال على النساء، مقصود شرعاً وعقلاً. فتشبُّه الرجال بالنساء يهبط بهم عن هذه الدرجة الرفيعة. وتشبه النساء بالرجال يبطل التمييز.
وأيضاً، فتشبه الرجال بالنساء بالكلام واللباس ونحو ذلك: من أسباب التخنث، وسقوط الأخلاق، ورغبة المتشبه بالنساء في الاختلاط بهن، الذي يخشى منه المحذور. وكذلك بالعكس.
وهذه المعاني الشرعية، وحفظ مراتب الرجال ومراتب النساء، وتنزيل كل منهم منزلته التي أنزله الله بها، مستحسن عقلاً، كما أنه مستحسن شرعاً.
وإذا أردت أن تعرف ضرر التشبه التام، وعدم اعتبار المنازل، فانظر في هذا العصر إلى الاختلاط الساقط الذي ذهبت معه الغيرة الدينية، والمروءة الإنسانية، والأخلاق الحميدة، وحَلَّ محله ضد ذلك من كل خلق رذيل.
ويشبه هذا – أو هو أشد منه – تشبه المسلمين بالكفار في أمورهم المختصة بهم. فإنه  قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" فإن التشبه الظاهر يدعو إلى التشبه الباطن، والوسائُل والذرائع إلى الشرور قصد الشارع حَسْمها من كل وجه.









الحديث السادس والستون
عن علي بن الحسين رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حُسْن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعنيه"
رواه مالك وأحمد. ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الترمذي عن علي بن الحسين وعن أبي هريرة.



الإسلام – عند الإطلاق – يدخل فيه الإيمان، والإحسان. وهو شرائع الدين الظاهرة والباطنة. والمسلمون منقسمون في الإسلام إلى قسمين، كما دلّ عليه فحوى هذا الحديث.
فمنهم: المحسن في إسلامه. ومنهم :المسيء.
فمن قام بالإسلام ظاهراً وباطناً فهو المحسن {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}(1.).
فيشتغل هذا المحسن بما يعنيه، مما يجب عليه تركه من المعاصي والسيئات، ومما ينبغي له تركه، المكروهات وفضول المباحات التي لا مصلحة له فيها، بل تفوت عليه الخير.
فقوله  : "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" يعم ما ذكرنا.
ومفهوم الحديث: أن من لم يترك ما لا يعنيه: فإنه مسيء في إسلامه. وذلك شامل للأقوال والأفعال، المنهي عنها نهي تحريم أو نهي كراهة.
فهذا الحديث يُعدّ من الكلمات الجامعة. لأنها قسمت هذا التقسيم الحاصر، وبينت الأسباب التي يتم بها حسن الإسلام، وهو الاشتغال بما يعني، وترك ما لا يعني من قول وفعل. والأسباب التي يكون بها العبد مسيئاً. وهي ضد هذه الحال. والله أعلم.





الحديث السابع والستون
عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نَحل والدٌ ولدّه من نحْل أفضل من أدب حسَن"
رواه الترمذي.



أولى الناس ببرِّك، وأحقهم بمعروفك: أولادُك؛ فإنهم أمانات جعلهم الله عندك، ووصاك بتربيتهم تربية صالحة لأبدانهم وقلوبهم، وكل ما فعلته معهم من هذه الأمور، دقيقها وجليلها، فإنه من أداء الواجب عليك، ومن أفضل ما يقربك إلى الله، فاجتهد في ذلك، واحتسبه عند الله، فكما أنك إذا أطعمتهم وكسوتهم وقمت بتربية أبدانهم، فأنت قائم بالحق مأجور. فكذلك – بل أعظم من ذلك – إذا قمت بتربية قلوبهم وأرواحهم بالعلوم النافعة، والمعارف الصادقة، والتوجيه للأخلاق الحميدة، والتحذير من ضدها.
و "النحل": هي العطايا والإحسان. فالآداب الحسنة خير للأولاد حالاً ومآلاً من إعطائهم الذهب والفضة، وأنواع المتاع الدنيوي لأن بالآداب الحسنة، والأخلاق الجميلة، يرتفعون، وبها يسعدون، وبها يؤدون ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وبها يجتنبون أنواع المضار، وبها يتم برهم لوالديهم.
أما إهمال الأولاد: فضرره كبير، وخطره خطير. أرأيت لو كان لك بستان فَنمَّيته، حتى استتمت أشجاره، وأينعت ثماره، وتزخرفت زروعه وأزهاره. ثم أهملته فلم تحفظه، ولم تَسقِه ولم تُنَقِّه من الآفات، وتعده للنموِّ في كل الأوقات، أليس هذا من أعظم الجهل والحمق؟ فكيف تهمل أولادك الذين هم فِلذة كبدك، وثمرة فؤادك، ونسخة روحك، والقائمون مقامك حياً وميتاً، الذين بسعادتهم تتم سعادتك، وبفلاحهم ونجاحهم تدرَك به خيراً كثيراً {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(.1).






الحديث الثامن والستون
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل الجليس الصالح والسوء: كحامل المسك، ونافخ الكِير. فحامل المسك: إما أن يَحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة"
متفق عليه.


اشتمل هذا الحديث على الحث على اختيار الأصحاب الصالحين، والتحذير من ضدهم.
ومثَّل النبي  بهذين المثالين، مبيناً أن الجليس الصالح: جميع أحوالك معه وأنت في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك: إما بهبة، أو بعوض. وأقل ذلك: مدة جلوسك معه، وأنت قرير النفس برائحة المسك.
فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر، فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك. فيحثك على طاعة الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله. فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضاً إلى الخير، أو إلى ضده.
وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح – وهي فائدة لا يستهان بها – أن تكف بسببه عن السيئات والمعاصي، رعاية للصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعاً عن الشر، وأن يحفظك في حضرتك ومغيبك، وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حال حياتك وبعد مماتك، وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك، ومحبته لك.
وتلك أمور لا تباشر أنت مدافعتها، كما أنه قد يصلك بأشخاص وأعمال ينفعك اتصالك بهم.
وفوائد الأصحاب الصالحين لا تعد ولا تحصى. وحسب المرء أن يعتبر بقرينه، وأن يكون على دين خليله.
وأما مصاحبة الأشرار: فإنها بضد جميع ما ذكرنا. وهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم. فكم هلك بسببهم أقوام. وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.
ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن، أن يوفقه لصحبة الأخيار. ومن عقوبته لعبده، أن يبتليه بصحبة الأشرار.
صحبة الأخيار توصل العبد إلى أعلى عليين، وصحبة الأشرار توصله إلى أسفل سافلين.
صحبة الأخيار توجب له العلوم النافعة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وصحبة الأشرار: تحرمه ذلك أجمع {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً 27 يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً 28 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً}(1.)



الحديث التاسع والستون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ واحدٍ مرتين"
متفق عليه.



هذا مثل ضربه النبي  : لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فإنه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة.
ومن تمام توبته: أن يحذر غاية الحذر من ذلك السبب الذي أوقعه في الذنب، كحال من أدخل يده في جُحر فلدغته حَيَّة. فإنه بعد ذلك لا يكاد يدخل يده في ذلك الجحر، لما أصابه فيه أول مرة.
وكما أن الإيمان يحمل صاحبه على فعل الطاعات. ويرغبه فيها. ويحزنه لفواتها. فكذلك يزجره عن مقارفة السيئات، وإن وقعت بادر إلى النزوع عنها. ولم يعد إلى مثل ما وقع فيه.
وفي هذا الحديث: الحث على الحزم والكَيْس في جميع الأمور. ومن لوازم ذلك: تعرف الأسباب النافعة ليقوم بها، والأسباب الضارة ليتجنبها.
ويدل على الحثّ على تجنب أسباب الرِّيب التي يخشى من مقاربتها الوقوع في الشر.
وعلى أن الذرائع معتبرة. وقد حذر الله المؤمنين من العود إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في المعاصي، فقال {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(.1) ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة.
وفي الحديث: "الأناة من الله، والعجلة من الشيطان، ولا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" والله أعلم.







الحديث السبعون
عن أبي ذر الغِفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذَرٍّ، لا عقل كالتدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حَسَبَ كحُسْن الخلق"
رواه البيهقي في شعب الإيمان.



هذا الحديث اشتمل على ثلاث جمل، كل واحدة منها تحتها علم عظيم:
أما الجملة الأولى: فهي في بيان العقل وآثاره وعلاماته، وأن العقل الممدوح في الكتاب والسنة: هو قوة ونعمة أنعم الله بها على العبد، يعقل بها أشياء النافعة، والعلوم والمعارف، ويتعقل بها ويمتنع من الأمور الضارة والقبيحة. فهو ضروري للإنسان لا يستغنى عنه في كل أحواله الدينية والدنيوية، إذ به يعرف النافع والطريق إليه. ويعرف الضار وكيفية السلامة منه. والعقل يعرف بآثاره.
فبين  في هذا الحديث آثاره الطيبة، فقال: "لا عقل كالتدبير" أي: تدبير العبد لأمور دينه، ولأمور دنياه.
فتدبيره لأمور دينه: أن يسعى في تعرّف الصراط المستقيم، وما كان عليه النبي الكريم، من الأخلاق والهدى والسَّمْت. ثم يسعى في سلوكه بحالة منتظمة. كما قال  : "استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجة، والقصدَ القصد، تبلغوا".
وقد تقدم شرح هذا الحديث، وبيان الطريق الذي أرشد إليه رسول الله  ، وأنها طريق سهلة توصل إلى الله، وإلى دار كرامته بسهولة وراحة، وأنها لا تقوِّت على العبد من راحاته وأموره الدنيوية شيئاً، بل يتمكن العبد معها من تحصيل المصلحتين، والفوز بالسعادتين، والحياة الطيبة.
فمتى دبر أحواله الدينية بهذا الميزان الشرعي، فقد كمل دينه وعقله. لأن المطلوب من العقل، أو يوصل صاحبه إلى العواقب الحميدة، من أقرب طريق وأيسره.
وأما تدبير المعاش: فإن العاقل يسعى في طلب الرزق بما يتضح له أنه أنفع له وأجدى عليه في حصول مقصوده. ولا يتخبط في الأسباب خبط عشواء، لا يقر له قرار، بل إذا رأى سبباً فتح له به باب رزق فليلزمه وليثابر عليه، وليُجْمل في الطلب. ففي هذا بركة مجربة.
ثم يدبر تدبيراً آخر. وهو التدبير في التصريف والإنفاق، فلا ينفق في طرق محرمة، أو طرق غير نافعة، أو يسرف في النفقات المباحة، أو يُقَتَِر. وميزان ذلك: قوله تعالى في مدح الأخيار {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}(1).
فحسن التدبير في كسب الأرزاق، وحسن التدبير في الإنفاق، والتصريف، والحفظ، وتوابع ذلك: دليل على كمال عقل الإنسان ورزانته ورشده.
وضد ذلك: دليل على نقصان عقله، وفساد لُبِّه.
الجملة الثانية: قوله  "لا ورع كالكف".
فهذا حدٌّ جامع للورع. بيّن به رسول الله  : أن الورع الحقيقي هو الذي يكفُّ نفسه، وقلبه ولسانه، وجميع جوارحه عن الأمور المحرمة الضارة. فكل ما قاله أهل العلم في تفسير الورع، فإنه يرجع إلى هذا التفسير الواضح الجامع.
فمن حفظ قلبه عن الشكوك والشبهات، وعن الشهوات المحرمة والغِلُّ والحقد، وعن سائر مساوئ الأخلاق وحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب والشتم، وعن كل إثم وأذى، وكلام محرم، وحفظ فرجه وبصره عن الحرام، وحفظ بطنه عن أكل الحرام، وجوارحه عن كسب الآثام فهذا هو الورع حقيقة.
ومن ضيع شيئاً من ذلك نقص من ورعه بقدر ذلك، ولهذا قال شيخ الإسلام: (الورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة).
الجملة الثالثة: قوله  : "ولا حَسَبَ كحسن الخلق".
وذلك أن الحسب مرتبة عالية عند الخلق. وصاحب الحسب له اعتبار وشرف بحسب ذلك. وهو نوعان:
النوع الأول: حسب يتعلق بنسب الإنسان وشرف بيته.وهذا النوع إنما هو مدح؛ لأنه مظنة أن يكون صاحبه عاملاً بمقتضى حسبه، مترفعاً عن الدنايا، متحلِّياً بالمكارم. فهو مقصود لغيره.
وأما النوع الثاني: فهو الحسب الحقيقي الذي هو وصف للعبد، وجمال له وزينة، وخير في الدنيا والدين، وهو حسن الخلق المحتوي على الحلم الواسع، والصبر والعفو، وبذل المعروف والإحسان، واحتمال الإساءة والأذى، ومخالقة طبقات الناس بخلق حسن.
وإن شئت فقل حسن الخلق نوعان:
الأول: حسن الخلق مع الله، وهو أن تتلقى أحكامه الشرعية والقدرية بالرضى والتسليم لحكمه، والانقياد لشرعه، بطمأنينة ورضى، وشكر لله على ما أنعم به: من الأمر والتوفيق، والصبر على أقداره المؤلمة والرضى بها.
الثاني: حسن الخلق مع الخلق، وهو بذل الندَى، واحتمال الأذى، وكف الأذى، كما قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(1)، {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(2).
فمن قام بحسن الخلق مع الله ومع الخلق: فقد نال الخير والفلاح. والله أعلم.








الحديث الحادي والسبعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "جاء رجل، فقال: يا رسول الله، أوصني. فقال: لا تغضب. ثم ردَّدَ مراراً. فقال: لا تغضب"
رواه البخاري.



هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي. وهو يريد أن يوصيه النبي  بكلام كلي. ولهذا ردد. فلما أعاد عليه النبي  عرف أن هذا كلام جامع. وهو كذلك؛ فإن قوله: "لا تغضب" يتضمن أمرين عظيمين:
أحدهما: الأمر بفعل الأسباب، والتمرن على حسن الخلق، والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق، من الأذى القولي والفعلي. فإذا وفِّق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب احتمله بحسن خلقه، وتلقاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه؛ فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به. والنهي عن الشيء أمر بضده. وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه. وهذا منه.
الثاني: الأمر – بعد الغضب – أن لا ينفذ غضبه؛ فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه. فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال والمحرمة التي يقتضيها الغضب.
فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة، فكأنه في الحقيقة لم يغضب. وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية، والقوة القلبية، كما قال  : "ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
فكمال قوة العبد: أن يمتنع من أن تؤثر فيه قوة الشهوة، وقوة الغضب الآثار السيئة، بل يصرف هاتين القوتين إلى تناول ما ينفع في الدين والدنيا، وإلى دفع ما يضر فيهما.
فخير الناس: من كانت شهوته وهواه تبعاً لما جاء به الرسول  ، وغضبه ومدافعته في نصر الحق على الباطل.
وشر الناس: من كان صريع شهوته وغضبه. ولا حول ولا قوة إلا بالله



الحديث الثاني والسبعون
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذَرَّة من كِبْر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبْر: بَطْر الحق، وغَمْط الناس"
رواه مسلم.



قد أخبر الله تعالى: أن النار مثوى المتكبرين. وفي هذا الحديث أنه "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فدلّ على أن الكبر موجب لدخول النار، ومانع من دخول الجنة.
وبهذا التفسير الجامع الذي ذكره النبي  يتضح هذا المعنى غاية الاتضاح؛ فإنه جعل الكبر نوعين:
كبر النوع الأول: على الحق، وهو رده وعدم قبوله. فكل من رد الحق فإنه مستكبر عنه بحسب ما رد من الحق. وذلك أنه فرض على العباد أن يخضعوا للحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه.
فالمتكبرون عن الانقياد للرسل بالكلية كفارٌ مخلدون في النار؛ فإنه جاءهم الحق على أيدي الرسل مؤيداً بالآيات والبراهين. فقام الكبر في قلوبهم مانعاً، فردوه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ}

فإنه ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، فكم من صاحب ثروة وقلبه فقير متحسر، وكم من فقير ذات اليد، وقلبه غني راض، قانع برزق الله.
فالحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته. والله أعلم.
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف العراقي الجمعة أغسطس 03, 2007 2:50 pm

مشكووووووووووووور
العراقي
العراقي
المدير
المدير

ذكر
عدد الرسائل : 109
تاريخ التسجيل : 29/05/2007

http://aliraq.own0.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

شرح تسع وتسعين حديثاً Empty رد: شرح تسع وتسعين حديثاً

مُساهمة من طرف هكر بغداد الجمعة أغسطس 03, 2007 3:27 pm

شكرأ للمرور حبي
هكر بغداد
هكر بغداد

ذكر
عدد الرسائل : 223
تاريخ التسجيل : 19/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى